سامي نعمان (نشر هذا الموضوع في جريدة النداء)
قبل أسابيع غادر رئيس الجمهورية فناء مجلس الوزراء وسط زحمة جماعات احتجاجية مختلفة ملوحاً بيده للجموع في الساحة المقابلة لبوابة المجلس.
لا أعتقد أنه حسبهم جموع هتافين: "بالروح بالدم" يساقون أثناء مرور موكب فخامته في مختلف المحافظات. لقد لوح لهم متضامناً ومحيياً نضالهم السلمي، وقد سبق في علمه جيداً أن هذا الفضاء أصبح المتنفس الوحيد والأمثل للاحتجاج.
لوح مزهواً بنشوة الأمر الواقع الذي يخالف كل ادعاءات المعارضة التي تقول بحكم الفرد، وتحتج أمام الحكومة. إنها حقا مفارقة تستحق وقفة الرئيس وتحيته للجمهور.
فمشهد مواطنين من ذوي الحقوق والمظالم يحتجون بانتظام كما جلسات الحكومة يشير إلى دولة ديمقراطية تكفل حرية التعبير، ودولة مؤسسات يدرك فيها الناس أن مشكلتهم في أداء الحكومة ويحتجون على سوء إدارتها. وهؤلاء ليسوا فقط من العامة الذين يدْعون على دولة الدكتور مجور وأعضاء حكومته، بل فيهم نخبة المجتمع: قادة الأحزاب، أساتذة الجامعات، أرباب العمل المدني، أعضاء مجلس النواب، إضافة إلى شرائح اجتماعية ومدنية وشعبية واسعة، ومنهم من يضجون الأسماع بالشكوى من حكم الفرد!
إنها ديمقراطية نموذجية في بلد محدود الموارد، ومن الطبيعي أن تترافق مع تجربته الديمقراطية مشاكل وأزمات اقتصادية واجتماعية لا تخلو منها الديمقراطيات المثالية. هذا ما تحكيه الصورة التي اكتملت بظهور الرئيس ملوحاً ومسانداً ومشجعاً على مواصلة الاحتجاج أمام الحكومة الفاسدة.
يحق له أن يبتسم للصورة الماثلة أمامه، ولولا "ايتيكيت" الرئاسة، لنزل وتنقل بين جموع المعتصمين، ولوح للكاميرات بالسبابة والوسطى، وهتف معهم تسقط حكومة مجور.
لم لا؟ وهو يقرأ في المشهد إخلاءً لطرف مسؤوليته من مظالم كل هؤلاء، بما فيها كبرى معضلات الفشل في البلاد في الوقت الحالي، كأزمة صعدة وانتفاضة الجنوب.
منذ تدشين فعاليات الاحتجاج أمام رئاسة الوزراء منتصف العام 2007، والساحة تشهد تزاحما متزايداً كل أسبوع، وأصبحت بمثابة منطقة حرة لا يجد فيها المحتج هراوة أو رصاصات طائشة أو قوات مكافحة الشغب، رغم أنها كانت تتواجد أحيانا في بداية الاعتصامات هناك، قبل أن يستوعب المعنيون أهمية حريتها في هذا الحيز. وقد وصل عدد جماعات الضغط –على حكومة مجور– المتواجدة فيها أحيانا إلى 15 جماعة، لكل منها قضية مختلفة (بالأمس فقط كان عدد الاعتصامات التي نفذت قرابة عشرة).
حين أطلق القيادي المعارض محمد الصبري على هذا المكان اسم "ساحة الحرية"، في بداية مشوار الاعتصامات، داعياً إلى فعاليات مستمرة فيه لكل أصحاب الحقوق والجماعات المدنية، التقط مصدر رسمي الفكرة وتبناها، وأُعلن عن توجيهات رئاسية بتخصيص "هايد بارك" أمام مقر الحكومة، تكون متنفسا للمعارضة وأصحاب الحقوق. وأتذكر يومها أن الأستاذ علي الصراري علق على ذلك بالقول: "إنهم يريدون تقييد حركتنا في قطعة أرض مساحتها بضعة أمتار!".
لقد أدت ما تسمى بـ"ساحة الحرية" دورها بشكل جيد حتى الآن، فهي أسهمت في تعزيز ثقافة المواطنين بسلوك طريق النضال السلمي والاحتجاج المدني الراقي، وأوصلت كثيراً من القضايا إلى وسائل الإعلام، وأصبحت في صدارة الاهتمام ولم تتركها للموت السهل، وربما تكون قد حلت بعض القضايا الصغيرة التي تقدر عليها حكومة مجور، وقدمت صورة ايجابية عن التجربة الديمقراطية في اليمن، ولفتت انتباه كثير من العامة ممن لم يسبق لهم أن فكروا بمظاهر احتجاج أخرى غير الصميل، إلى وسائل ضغط أخرى لاستخراج الحقوق، أو عدم دفن القضايا، وإن كانت لا تزال قاصرة في هذا الميدان العقيم.
وطالما حسب للمعارضة ومنظمات المجتمع المدني ترسيخها لمبدأ الاحتجاج السلمي والاعتصامات الحضارية، فإن عليها أن تنتقل إلى خطوة أخرى متقدمة، تنسجم مع ما تدعيه من غياب دولة المؤسسات وديكورية أداء الحكومة. عليهم المبادرة بالاعتصام أمام رئاسة الجمهورية.
أليس هذا منطقياً؟ أم أن ديمقراطية "ساحة الحرية" لا يمكن أن تغامر بالاقتراب من المكان الذي تدرك نخب تلك الساحة أن بيده الحل والعقد.
تلك خطوة متقدمة، نفذت قبل اختراع "ساحة الحرية"، ونفذ الصحفيون اعتصامات ناجحة في فترة سجن الأستاذ عبدالكريم الخيواني عام 2004، وكنت أنا ضمن عشرات الطلاب المحتجين عام 2003 أمام رئاسة الجمهورية بعد أن مللنا الاعتصام لأسابيع أمام رئاسة حكومة باجمال -عافاه الله- في خلاف لنا مع عمادة الكلية استعصى على الحكومة القول بغير الوقوف في صف الجانب الرسمي. تجمعنا في الضفة الأخرى للرئاسة، وشرعنا في رفع شعاراتنا؛ إلا أن حرساً مدنيا وعسكريا اقتربوا منا، وبدا أنهم مستعدون لكل شيء، لكنهم فضلوا البدء بالإجراء الأسهل مع طلاب يحسبونهم غاوين مشاكل، ومخدوعين بالديمقراطية، ومتجرئين على دولة المؤسسات، قالوا: "عطفوا الشعارات! هذه الفوضى ما تنفعش! جيبوا رسالة بمطالبكم ونوعدكم نوصلها لمكتب فخامة الرئيس ونتابعها". وبطبيعة الحال، كان علينا أن نثبت لحرس الرئاسة أننا متحضرون، ونحن مقتنعون أن خير الغنيمة من هذا المكان هي العودة بكرامتنا، فكيف إذا أضيف لها وعد من حراسة الرئيس. عطّفنا وقفلنا منتظرين وعد الحراسة بتجاوب رئاسي، جاء لاحقا ليعيدنا إلى مرمى الحكومة ووزارة التعليم العالي، التي بدأت تناقش المشكلة هذه المرة بقليل من الجدية، لأنها عادت من بوابة فخامة الرئيس!
قد يكون متفهماً اصطفاف الجماعات الشعبية والاجتماعية العادية أمام رئاسة الوزراء، باعتبار قصر نظرهم بالوضع السياسي وآلية صنع القرار؛ لكن اصطفاف أمناء عموم أحزاب المشترك وهيئاتهم التنفيذية وممثليهم في مجلس النواب، ومنظمات المجتمع المدني في مربع الحرية –على دلالته الرمزية بالتضامن– لا يمكن تفهمه، في ظل تأكيدهم غياب دولة المؤسسات، وحكم الفرد، وغياب القدرة في اتخاذ القرار عن الحكومة. وحتى القول بأن الاعتصامات تأتي للضغط على الحكومة لممارسة صلاحياتها في إدارة البلاد، ليس مقنعاً، وهم يعلمون أن ممارسة الحكومة لصلاحياتها تحتاج لقرار سياسي رفيع المستوى، ولن تستطيع الحكومة أن تمارس صلاحياتها حتى إن نزلت هي بكامل أعضائها للاعتصام في ساحة الحرية مطالبة بإطلاقها.
هناك بالتأكيد ساحة أخرى أكثر جدوى من الخدمة المجانية في "القاع"، في تقليد أسبوعي يمثل ترويجاً للديمقراطية التي يدعون زيفها، وربما تدرك الحكومة أو من يقف وراءها أن تلبية مطالب هؤلاء يعني التخفيف عن الساحة وتغييب أبرز مظاهر الديمقراطية، التي تظهر في شاشات الفضائيات، من حين لآخر.
هناك ساحة أخرى أكثر جدوى، سيكون على الرئيس أن يلوح يومياً للمتجمهرين فيها لدى دخوله وخروجه منها، وستعكس صورة أكثر جدية للديمقراطية في نسختها اليمنية، إن سُمح لهم بتجاوز مربع الحرية في قاع الحكومة.
أما الاستمرار في هذه الساحة فهذا يعني أن على الرئيس أن يحجز له مقعداً فيها ويمد رجليه، ويترك مطمئنا للمعارضة مهمة تكذيب ادعاءاتها، ويهتف مع جموع المعتصمين وفيهم نخب ساحة الحرية: تسقط حكومة مجور!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق