سامي نعمان
انفضت حشود خميس الغضب دون منغصات جديرة بالذكر، خلافا للكثير من التوقعات التي كانت تنظر إليها باعتبارها شرارة ثورة تحاكي الانتفاضة المصرية... بل بدا ان منظموها كانوا اكثر حرصاً على انهائها دون تصعيد.. مكتفين بتوجيه رسالة للنظام الحاكم مفادها هذا حجمنا وتلك مطالبنا.. وهو ذاته النظام الذي بدا اكثر حرصا على تفادي ما قد يعكر صفو التظاهرة السلمية، وتجنب حدوث أي احتكاك بين انصار المعارضة من جهة، وانصاره وأفراد أمنه على الطرف الاخر.
استبق الرئيس علي عبدالله صالح تلك المظاهرة بدعوة لإلغائها، مبادراً بإعلان حزمة تطمينات لهواجس المعارضة، واستجابة خطابية لبعض المطالب، وتلبية بعض الاشتراطات المرحلية، في إطار مساعي امتصاص موجة الغضب المتفاعلة مع ما يشهده الشارع المصري، بعد التونسي من ثورات شعبية، اسقطت النظام في تونس، وتوشك على فعل ذلك في مصر..
بالتأكيد هي مبادرة أعادت صياغة الكثير من الحسابات رغم كونها - حتى ساعتها- مجرد اعلان مشكوك في صدقيته لدى غالبية القيادات والانصار في تظاهرة الغضب، التي كان لا بد من انفاذها، استعراضا للقوة، وتحاشياً لاحباط المشاركين من جدية المعارضة في حال إلغائها..
أمام اجتماع مشترك لمجلسي النواب والشورى الاربعاء الماضي، اعلن الرئيس تجميد مشروع التعديلات الدستورية، وفتح السجل الانتخابي لتسجيل من بلغوا السن القانونية، وهذه الاجراءات من شأنها أن تقود إلى تأجيل تلقائي للانتخابات التي كان الرئيس وحزبه الحاكم، قد شرع في اولى خطواتها انفراديا، وحتى الاربعاء الماضي كان الموقف الرسمي يتحدث عن انتخابات في موعدها، مرحبا بمن يشارك، وغير مأسوف على من يقاطع..
هو دعا ايضا اللجنة الرباعية التي تضم عبدربه منصور هادي، وعبدالكريم الارياني من الحزب الحاكم، وعبدالوهاب الانسي، وياسين سعيد نعمان من اللقاء المشترك، إلى الالتئام مجددا تحضيراً للحوار الوطني الشامل، تفاديا للفوضى التي ستنجم عن تعبئة اربع سنوات من الاحتقان والتعبئة الخاطئة... وحدد مهام اللجنة بوضع سقف زمني للتعديلات الدستورية والسجل الإنتخابي وللإنتخابات النيابية بما في ذلك القائمة النسبية... كما دعا المعارضة أن تأتي لتوزيع الثروة وتشكيل حكومة وحدة وطنية تجسد الشراكة، بعيدا عن حسابات الاغلبية..
بذلك يكون الرئيس قد لبى مطالب المعارضة الطارئة منذ منتصف سبتمبر الماضي، حينما شرع حزبه في اجراءات احادية تحضر للانتخابات، وزيادة على ذلك، طرحت مشروع تعديلات دستورية مثيرة للجدل تتيح احدى موادها للرئيس الحق في الترشح إلى ما لا نهاية دستورية سوى الاجل، او تكرار السيناريو الشعبي ثالثا هنا.. وبالنسبة لحساباته فالاخير هو الفوضى والغوغاء التي يصم بها ما حدث في تونس، ويحدث حاليا في مصر، والتي يتخوف من انطلاق شرارتها في بلاده في اليوم التالي، ويسعى للسيطرة عليها قبل ان يفقد العقلاء قدرتهم على فعل ذلك..
ولئن كانت الانتخابات التشريعية التي افرزت مجلس شعب بلون واحد في مصر قد عملت بمثابة حافزٍ هامٍ للمغامرة في اجراءات الانفراد في اليمن بعيداً عن حسابات التوافق، فإن تبعات تلك الانتخابات - كسبب مهم وغير وحيد للانفجار- التي تتجلى فيما تشهده كافة المدن هناك اليوم، كانت اشارة كافية لصاحب القرار هنا للتراجع قبل ان تستشري العدوى السريعة التي تنتاب الشعوب فتهوى لحرارتها رؤوس الانظمة، دون مراعاة لخصوصيات او اعتبار لحدود.
صالح فضل ان يذهب ابعد من ذلك تجاوبا مع شعارات تردد في دول سبقت ثوراتها وتقاسم اليمن تركيبة النظام، وباتت تتسلل إلى التجمعات الاخيرة، اسقاط النظام، والدعوة للرحيل، إذ ارسل تطمينات بعدم سعيه للتمديد أو التوريث لنجله. قال رابعاً: لا تمديد ولا توريث ولا تصفير ولا قلع للعداد كما جاء في الاسطوانة المشروخة، ان الرئيس يريد ان يورث ابنه"..
تلك اجتهادات صدرت من بعض الاشخاص المخلصين إذن، لم يتضمنها برنامجه الانتخابي الذي حدد مدة الرئاسة بدورتين فقط من خمس سنوات، كما تحدث.
كرئيس للبلاد، قدم صالح ما اعتبرها تنازلات على طاولة المعارضة، استجابة لمطالبهم دون عناد وقال
"لبيك للمصلحة العامة"، داعيا إلى تجميد المسيرات والاعتصامات، مناديا الشعب "إلى الدفاع عن ماله وعرضه إذا حلت الفوضى والغوغائية".. وهي الدعوة التي رأت فيها المعارضة دعوة لحرب أهلية..
مبادرة الاربعاء الرئاسية لم تحل دون إقامة اعتصام المعارضة الخميس، وإن افلحت في إعادة تقدير الامور، رغم كل ما زامن تلك المبادرة من اجراءات استفزازية تمثلت في منع اقامة اعتصام المعارضة في ميدان التحرير بقلب العاصمة، وحشد الحزب الحاكم لانصاره في مظاهرة مؤيدة له في الميدان ذاته، فضلاً عن استعدادت امنية مكثفة بآليات وعربات عسكرية وأمنية، ظلت على أهبة الاستعداد للمواجهة حتى ساعات قليلة بدء الفعالية.
تراوحت ردود قيادات المعارضة التلقائية، بين الاشادة والتشكيك، على ان الاشادة مشروطة بالمصداقية، وكان الرد الاكثر حصافة تصريح رئيس مجلس المعارضة الاعلى بأن هذه المبادرة لم تطرح رسمياً عليهم، وانهم سيبدون رأيهم فيها حال تسلمها.
استذكر بعض رموز المعارضة مبادرة جريئة للرئيس عام 2005، جاءت في ظروف اكثر استقرارا من هذه، حين قرر عدم الترشح لكن المشهد الاخير اقتضى ان يتراجع الرئيس عن قراره ذاك ترجمة لارادة شعبية هو اشد ما يخشاها اليوم.
وتالياً لتظاهرة الخميس خرجت قيادات المشترك بتصريحات تشكك في جدية مبادرة الرئيس، داعية إلى إقالة أقاربه من قيادة المؤسسات العسكرية ليترجم عملياً تعهده بعدم توريث السلطة لنجلـه، قال زيد الشامي عضو مجلس النواب عن حزب الاصلاح.
واعتبر أمين عام اللجنة التحضيرية للحوار الوطني الشيخ حميد الاحمر، ان الرئيس لم يقدم أي تنازلات في مبادرته، وما قاله هو تراجع عن أخطاء ارتكبها من قبل، مؤكداً على حديث الشامي بأن الحديث عن عدم التوريث "يتناقض مع وجود الورثة بمناصب قيادية في مؤسسات الجيش والأمن"، مطالباً بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية وإسناد رئاستها لشخصيات جنوبية، حتى يتحقق مبدأ الشراكة الوطنية.
وبعيدا عن طبيعة استجابة المعارضة لتلك المبادرة، كان الرئيس الامريكي باراك اوباما الاسرع التقاطاً لها، اذ اتصل بصالح مساء الاربعاء، مثمنا وعوده التي اطلقها، وطالبه بالوفاء بها.. وحثه على ان تلتزم قوات الامن اليمنية ضبط النفس وان تمتنع عن استخدام العنف ضد المتظاهرين الذين يمارسون حقهم في التجمع وحرية التعبير"، وفق البيت الابيض، الذي بات يحاذر تكرار السيناريو المصري في اليمن، التي تتركز فيها معظم هواجسه على مستوى المنطقة، ويحرص على عدم اندلاع بؤرة انتفاضة شعبية في بلد تتجاذبه الازمات، واخطرها بالنسبة للامريكيين تنظيم القاعدة الذي تقول انه وجد في اليمن بيئة خصبة لممارسة انشطته ضدها..
وكما كان للانتفاضة الشعبية في مصر رجع صدى قوي في صنعاء دفع الرئيس إلى مراجعة حساباته السياسية فقد عملت الثورة التونسية التي اطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي منتصف يناير الماضي، أثرها ايضا في اطلاق مصفوفة محفزات اقتصادية بعضها تم البت فيها ابتداء من الشهر ذاته..
فالرئيس كان قد وجه بتنفيذ المرحلة الثالثة من استراتيجية الاجور ابتداء من فبراير الجاري، بالنسبة لموظفي القطاع المدني، ورفع مماثل لافراد القوات المسلحة والامن، وتخفيض الضرائب ابتداء من يناير الجاري، ومنح الموظفين الاداريين في قطاع التربية امتيازات كانوا محرومين منها، واعفاء الطلاب الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة من رسوم الجامعات، واعفاء الطلاب الدارسين بنظام الموازي من بقية الرسوم لهذا العام، ومراجعة تلك الرسوم في الاعوام القادمة، وانشاء صندوق لدعم الشباب الخريجين وذلك لتتكامل الفرص، مع وعود بمليون فرصة وظيفية تشمل 25% من خريجي الجامعات، واعتماد 500 الف حالة ضمان اجتماعي ابتداء من فبراير الجاري...
وبانتظار مخاض تلك المبادرة، تقول المعارضة انها ستواصل احتجاجاتها الشعبية، التي لا زالت فاعلا رئيسيا حتى اللحظة في اثارتها واخمادها، وستعمل على المسار السياسي تزامنا مع ذلك.. ولا يبدو ان المستقبل يتحمل تكراراً لسيناريو ازمات ما قبل انتخابات 2009، وانتخابات 2011.. فالمرحلة تقتضي ارادة سياسية جادة في الحوار والاصلاحات التي يجد المواطن اثراً لها على الواقع، مالم فإن خيارات الشعوب ستبقى مفتوحة على خيارها الابسط وإن كان مكلفاً خصوصا اذا ترسخت مزيد من القناعات بعدم جدوى المعارضة كرافعة لمطالبهم وتحقيق الحد الادنى منها، وان ما أعلن من مبادرات لم تكن سوى لعب بالوقت لتجاوز مرحلة فرض المعادلة الصعبة -بالنسبة للانظمة- المثارة حالياً والتي تظهر التجربة المصرية ان كفة الشعوب ترجح داخليا، وخارجياً حتى عند اكثر المؤثرين والحلفاء .. وسيكون على الانظمة ان تنتظر طويلا جداً اذا عولت على عامل الوقت لالهاء ثورات الشباب عن مطالبهم بإسقاط الانظمة المنتكسة في ارذل العمر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق