سامي نعمان
أنهم مثل كهرباء الراهدة انطفأت ذات مساء، وبات الناس على أمل أن تعود في غضون المعتاد لكن انتظارهم امتد لأزيد من عشر سنوات.. نخب المجتمع لا أمل في أن يعودوا لحياة الناس
تخيلوا مثلي انكم افقتم ذات صباح على بيان لأحزاب اللقاء المشترك منشور على موقع الكتروني بأن مجلسها الاعلى سيدشن اعتصاماً مفتوحاً أمام رئاسة الوزراء حتى يتم اصلاح منظومة التعليم في البلاد وتطوير الخدمات الصحية، وتوازياً مع ذلك كان رئيس المجلس التنفيذي لأحزاب المشترك يعتصم بمعية رفقته جوار المؤسسة الاقتصادية اليمنية وهم يضغطون على اسنانهم ومعها ازرار الآلات الحاسبة استعداداً لتلبية مطالب المعارضة والشروع فوراً بتوزيع الثروة وشراكة السلطة، بعد ان سئمت تلك الاحزاب الاستجابة لهذيانها المستمر بالقائمة النسبية التي “كانت” تعتبرها بوابة الخروج من كل ازمات البلاد، بما فيها فقر الدم لدى المواطنين وارتفاع وفيات الامهات أثناء الولادة، لتقرر العودة إلى اهتمامات المواطنين نزولاً عند رغبة الحزب الحاكم الذي طالما اتهمها بالابتعاد عن الشارع.
هذا الامر ليس مستحيلاً وربما يكون أجدى من الاستماتة بالمطالبة بالقائمة النسبية.. لكن لكم ان تتخيلوا ردة فعل المؤتمر حينها وقد عملت المعارضة بنصائحه السابقة.. انا تخيلته هكذا: احزاب يئست العمل السياسي وتحولت إلى نهج الفوضى واثارة الشارع والضحك على مشاعر العامة بتبني قضاياهم... افلاسهم السياسي يقودهم الى افلاس اجتماعي.. تناسوا ان تغيير الاوضاع يتم عن طريق صناديق الاقتراع وأن الاصلاحات لا تهطل مطراً من السماء..
عموماً كان هذا الهذيان جزءاً من مسرح افكار سادت مساء الجمعة الماضية بفعل سلسلة منغصات لم تكن في الحسبان تتوالى الافكار معها تباعاً، كانت بدايتها رسالة اخبارية صفعتني كما كثيرين غيري بخبر وفاة وجرح العشرات في حوادث السير خلال شهر فقط..
إنها حرب شوارع بامتياز، لكن لا يوجد من يهتم لها ولا من يصدر بياناً صحفياً عنها، الآلاف يقتلون ويجرحون سنوياً في حوادث سير وفي ممرات موت معروفة على الدوام، لكننا نفتقر لصاحب قرار ينقذ الأطفال بعد وفاة عائليهم، نفتقر اكثر لأصوات ترتفع لتقول بمسؤولية جهات أخرى غير المتسببين مباشرة في وفاة المئات، نفتقر لمن يتحدث عن حل آخر غير “كل واحد يصلح سيارته” او نظام “الثلثين بثلث”، وفوق ذلك لا توجد جمعية او منظمة لحماية حق المواطنين في النجاة من حوادث السير.
في صنعاء تمتد السائلة من الحصبة شمالاً إلى قرب دار الرئاسة جنوباً، وكما بات معروفاً في صنعاء أن حوادث السائلة لا ترحم... هناك جسور حجرية–تكلف الملايين - لانتقال المشاة من احدى الضفتين إلى الاخرى لكنها تتباعد احياناً إلى بضعة كيلومترات، يضطر الراجلون بينها –خصوصاً طلاب المدارس- إلى المجازفة بقطع السائلة، وتؤول خطى بعضهم إلى الاضطراب الذي يجعلهم احيانا يتسمرون في أماكنهم كضحايا مفترضين لسيارات بأرواح متهورة... ذات السيناريو يتكرر في شارع الستين والعديد من الشوارع المفتوحة في العاصمة وغيرها من المحافظات.. المشكلة ببساطة تتطلب مثل كل بلاد الله جسوراً حديدية بسيطة (مثل جسر المركزي بتعز الذي كان ايام زمااااان) تربط ضفاف الشوارع في الاماكن الحساسة، لتحمي ارواح العجزة والاطفال من وصول موت محقق، لكن يبدو أن المنظر الجمالي للسائلة الذي يقتضي جسوراً متناسقة مع لون احجارها، وخصوصية خط الستين السريع، اهم من عقد الحساب لعشرات الارواح التي تموت هناك سنوياً... (بصراحة انزعج كثيراً وأنا أتذكر أن جسر المشاة بمركزي تعز الذي تطير ذاكرتنا الطفولية إليه كلما تذكرنا طفولتنا هناك قد ازيح من مكانه لسبب انا وكثيرون مثلي لا يعلمونه)..
ذات الامر يتكرر في نقيل الابل، جنوب شرق الحوبان، الذي يعد مسرحاً للموت المجاني دائماً بعشرات الحوادث سنوياً، البعض يقول انه “مغناطيس” وآخرون يحيلونه إلى سائقي القاطرات، لكن النتيجة اياً كانت المبررات هي تكرار الحوادث في هذا الممر بشكل قاتل..
عند هذه النقطة انطفأت الكهرباء مساء الجمعة في العاصمة، ليضاف تساؤل جديد، لماذا لا يكون للاحزاب ومنظمات المجتمع المدني موقف من اختلالات تطال خدمات اساسية كهذه..
انطفأت كعادتها يومياً وفي أوقات غير منتظمة، نهضت بحنق وأنا استحضر بحنق المثل القائل«اشعال شمعة خير من لعن الظلام”.. هو مثل مستفز للغاية في مثل هذه الظروف خاصة عندما تكون على يقين ان الاتصال بشكاوى الكهرباء لن يضيف جديداً..
كنت أحس احياناً تفكيراً كهذا مؤرق للغاية حقاً، خصوصاً عندما تفكر أن هناك أطفالاً بمدارس بلا تعليم ومباني صحية بلا تطبيب، ومحطات كهربائية بلا طاقة، وآبار بلا مياه، ووديان بلا زراعة سوى نهابة حياة الناس من المياه (كما يحدث في قاع دم – ماوية مثلاً)، وشوارع مكتظة بالسيارات الخردة وأحدث الموديلات ومن يركب وسائل المواصلات العامة طالباً كان او عاملاً تصير دراسته او مستقبل عمله في المشمش لمجرد عطل متكرر في سيارة منتهية الصلاحية، أو حادث دراجة نارية مغامرة رمت بنفسها في مواجهة سيارة منفلتة.. كيف للانسان أن يأمن على حياته وقوته ومصدر رزقه وهو يعيش روتيناً يومياً كئيباً كهذا..
اصبح مشهداً مألوفاً ومثيراً للشفقة في آن واحد أن ترى الاكوام البشرية المختلطة من الطلاب والطالبات صباح وظهر كل يوم تقضي ساعات من وقتها على قارعة الطريق بانتظار باص يقلهم من وإلى الجامعة، هؤلاء الذين يفترض بغالبيتهم ان يكونوا من النخب لو سألت احدهم عن مشكلته لقال لك عدم توفر باصات الجامعة وليس تأجيل الانتخابات أو حرب صعدة او احتجاجات الجنوب، وذات مرة التقيت صديقاً في شارع الزبيري يطالبني أن اكتب عن باصات حدة - التحرير التي ترفض ايصال الركاب إلى التحرير وتعود من جولة الزبيري.. وزاد: انتم فرغ جالسين تهدروا على الفاضي وعمركم ما بتعملوا حاجة للناس..
مشكلة الطلاب هذه مضى عليها سنوات، وكتبت عنها بعض الصحف، وكل عام تزداد اكثر مع زيادة عدد الطلاب، وعدم تناسب عددهم مع حاجتهم من وسائل النقل خصوصاً أن انضمام باظ إلى فرزة مثل الجامعة - جولة تعز اصبح باهض الكلفة ويقتضي وساطة أو مستثمراً من العيار الثقيل بحسب سائقي الباصات انفسهم...
لكن ماذا لو تبنى اتحاد طلاب اليمن قضية كهذه.. أم أنها ليست ضمن اختصاصاته؟..
ماذا لو تفاوض الاتحاد مع ادارة المرور او مكاتب النقل لحل مشكلة عشرات الآلاف من الطلاب الذين يقفون يومياً أمام بوابة الجامعة لساعات وبشكل مرهق لهم جميعاً.. اضعف الايمان أن “يتحرش” الاتحاد في بياناته الجهات المعنية بقضية مواصلات الطلاب كما “يتحرش” – ديمقراطياً طبعاً- وبصفة دائمة بالحراسة الامنية للجامعة لتحويلها لحراسة مدنية..
ألا يستحق الامر التفكير واعادة النظر على الاقل عند انطفاء الكهرباء؟؟!..
الاكثر استفزازاً في الفترة الاخيرة خصوصاً في العاصمة وتعز وحتى في المدن الفرعية والارياف كثرة الدراجات النارية المنفلتة، ليس بسرقة الحقائب من الايادي كما قيل كمبرر لاعدامها سلفاً، لكن بحوادثها البشعة التي تزهق ارواح العشرات او تخلفهم جرحى يلزمون فراش المرض ربما الى الابد.. مع ذلك نجد صمتاً مريباً من السلطات وهي تقرر ان كثيراً من الحوادث تسببت بها الدراجات النارية.. والمضحك جداً المبرر القائل أنه طالما لا يوجد قانون ذكر بين سطوره كلمة دراجات نارية فإن على الدراجات ان تسرح وتمرح وتقفز فوق الارصفة وتلغي الشوارع وتنتهك حرمة التقاطعات، دون رقيب ولا حسيب، وفي النهاية “هو موتور صيني” لا قانون يحكمه، ولا هو “عرطة” “تتصلبط” عليه، وكما يقول المثل “البلدي” القائل (فِعْلُه عظيم... وقتله رُحِيم) ..
قبل اكثر من ثلاثة أعوام كان الحل بنظر السلطات هو مصادرة الدراجات النارية في العاصمة، وهو ما وقف ضده كثيرون كون الاجراء كان قاسياً، وعدا ذلك غابت الحلول الوسط في بلد الحكمة.. سأجرب الحكمة بكل سهولة واقترح: بالامكان -كما سبقت التجربة- ترقيم الدراجات النارية وجعلها بأوراق ملكية وتعيين شوارع غير رئيسية لعملها، والزامها بقوانين المرور، واحترام حرمة الشوارع وأوقات راحة الناس، وإلا فدراجات المرور “الفخمة” كفيلة بملاحقتها حتى لو دخلت “جحر ضب”، وليست بأقل حيلة من سيارات المرور والنجدة التي تلاحق السيارات المخالفة..
إن تنظيم المدن وتحديثها لا بد أن يكون له من تبعات سلبية، قد تكون مؤلمة، لكنها حتمية ولا بد من اتخاذها يوماً ما، وسيكون لها ذات التبعات إن نفذت مستقبلاً، وما يحدث في تعز نموذجاً لذلك وهو إجراء حتمي لا بد أن يأتي من يفكر باتخاذه سواء كان الملياردير شوقي هائل، أو اي شخص آخر يحترم الموقع الذي يشغله، ومهما بلغت البلد من درجات رقيها الاقتصادي والاجتماعي فإن اي خطوة تتخذها لا بد ان يكون لها تبعات سلبية، لكن ينبغي التقليل من آثارها قدر الامكان..
عوداً إليها، اقصد كهرباء العاصمة التي كنت انتظر الموعد المتوقع لتشغيلها بعد ساعتين، كما اعتدنا في غضون الشهر الاخير، لكني صفعت مرة أخرى برسالة اخبارية تقول ان انقطاع الكهرباء ناجم عن الامطار الغزيزة التي هطلت على العاصمة مساء الجمعة.. بالنسبة لشخص مثلي لم يعد يجد عملاً إلا بمفاتيح الكمبيوتر فإن تلك الرسالة كانت تعني انقطاع الامل والاستلقاء مبكراً واجبارياً على الفراش دون نوم، سوى تداول افكار مستفزة كهذه.
بعدها كانت رسالة اخرى تنقل عن مصدر محلي في العاصمة انه سيتم اصلاح الكهرباء في اسرع وقت.. وكان علي انتظار اسرع وقت هذا متى يتحقق.. وبالمناسبة لكم أن تتخيلوا أن الناس في الراهدة مثلاً انطفأت الكهرباء عليهم ذات مساء مطلع التسعينات كعادتها، وباتوا منتظرينها “تولع”، لكن انتظارهم طال إلى عشر سنوات تقريباً..
غالبية ابناء الشعب اليمني يفكرون بالكهرباء وهموم الحياة اليومية ولا يفكرون بالاصلاح السياسي ولا بالنظام الانتخابي ولا الانتخابات وعندما يسمعون عن القائمة النسبية يحسبونها احدى المواد الغذائية المحتكرة على أبناء الذوات ولا يفكرون مطلقاً بشرائها.. الناس غارقون في هموم لقمة العيش وصون اطفالهم من الضياع وحماية ارواحهم من المرض، وتأمين سلامتهم من حوادث السير القاتلة.. نجيب عبدالله علي.. شاب حديث العهد بالزواج من قرية المصاعد بمديرية ماوية يضحك بمرارة من غلاء المعيشة “الناس كانوا زمان يروحوا يشتغلوا ويغتربوا سنة كامل على شان يعمروا بيت او يشتروا سيارة... الان تجلس تشقي وتآلب (تجمع) لمدة نصف شهر على شان تشتري كيس دقيق وكسيرة سكر”، ونجيب هذا يعمل مثل غيره باليومية في مزارع القات التي يلهف خيراتها شلة الكبار، وينفض غبارها العاملون الغلابي بما يسد الرمق.
“ولعت الكهرباء” أخيراً.. لم يكن هناك اسوأ من انتظارها إلى أجل غير مسمى، امتد في حالتي هذه الى ازيد من اربع ساعات وأنا لا أجد ما اعمله سوى انتظار عودتها او محاولة النوم عندما تصطدم عقارب الساعة بمؤشر منتصف الليل...
كان ذلك الانتظار صعباً بكل ما رافقه من افكار ايجابية أو تدرك أحياناً أنها ساذجة بعد أن تتذكر أنك فكرت ان حنفيات المطبخ تعمل والموبايل يستقبل رسائل، والتلفون الثابت يرن والناس على قيد الحياة والكهرباء “طافي”...
لكن يبدو الاصعب منه انتظار صحوة الحكومة والاحزاب ومؤسسات الدولة لتلتفت يوماً إلى ان هناك شعباً يريد في الوقت الحالي وعلى المدى القصير والمتوسط أن يعيش فقط..
هم كالكهرباء “مفصولون” عنه.. بالاصح هم مثل كهرباء الراهدة لا امل ان “يولعوا” قريباً..
* نشر هذا المقال في ملحق الديمقراطية التابع لجريدة الجمهورية الرسمية الصادرة من تعز
أنهم مثل كهرباء الراهدة انطفأت ذات مساء، وبات الناس على أمل أن تعود في غضون المعتاد لكن انتظارهم امتد لأزيد من عشر سنوات.. نخب المجتمع لا أمل في أن يعودوا لحياة الناس
تخيلوا مثلي انكم افقتم ذات صباح على بيان لأحزاب اللقاء المشترك منشور على موقع الكتروني بأن مجلسها الاعلى سيدشن اعتصاماً مفتوحاً أمام رئاسة الوزراء حتى يتم اصلاح منظومة التعليم في البلاد وتطوير الخدمات الصحية، وتوازياً مع ذلك كان رئيس المجلس التنفيذي لأحزاب المشترك يعتصم بمعية رفقته جوار المؤسسة الاقتصادية اليمنية وهم يضغطون على اسنانهم ومعها ازرار الآلات الحاسبة استعداداً لتلبية مطالب المعارضة والشروع فوراً بتوزيع الثروة وشراكة السلطة، بعد ان سئمت تلك الاحزاب الاستجابة لهذيانها المستمر بالقائمة النسبية التي “كانت” تعتبرها بوابة الخروج من كل ازمات البلاد، بما فيها فقر الدم لدى المواطنين وارتفاع وفيات الامهات أثناء الولادة، لتقرر العودة إلى اهتمامات المواطنين نزولاً عند رغبة الحزب الحاكم الذي طالما اتهمها بالابتعاد عن الشارع.
هذا الامر ليس مستحيلاً وربما يكون أجدى من الاستماتة بالمطالبة بالقائمة النسبية.. لكن لكم ان تتخيلوا ردة فعل المؤتمر حينها وقد عملت المعارضة بنصائحه السابقة.. انا تخيلته هكذا: احزاب يئست العمل السياسي وتحولت إلى نهج الفوضى واثارة الشارع والضحك على مشاعر العامة بتبني قضاياهم... افلاسهم السياسي يقودهم الى افلاس اجتماعي.. تناسوا ان تغيير الاوضاع يتم عن طريق صناديق الاقتراع وأن الاصلاحات لا تهطل مطراً من السماء..
عموماً كان هذا الهذيان جزءاً من مسرح افكار سادت مساء الجمعة الماضية بفعل سلسلة منغصات لم تكن في الحسبان تتوالى الافكار معها تباعاً، كانت بدايتها رسالة اخبارية صفعتني كما كثيرين غيري بخبر وفاة وجرح العشرات في حوادث السير خلال شهر فقط..
إنها حرب شوارع بامتياز، لكن لا يوجد من يهتم لها ولا من يصدر بياناً صحفياً عنها، الآلاف يقتلون ويجرحون سنوياً في حوادث سير وفي ممرات موت معروفة على الدوام، لكننا نفتقر لصاحب قرار ينقذ الأطفال بعد وفاة عائليهم، نفتقر اكثر لأصوات ترتفع لتقول بمسؤولية جهات أخرى غير المتسببين مباشرة في وفاة المئات، نفتقر لمن يتحدث عن حل آخر غير “كل واحد يصلح سيارته” او نظام “الثلثين بثلث”، وفوق ذلك لا توجد جمعية او منظمة لحماية حق المواطنين في النجاة من حوادث السير.
في صنعاء تمتد السائلة من الحصبة شمالاً إلى قرب دار الرئاسة جنوباً، وكما بات معروفاً في صنعاء أن حوادث السائلة لا ترحم... هناك جسور حجرية–تكلف الملايين - لانتقال المشاة من احدى الضفتين إلى الاخرى لكنها تتباعد احياناً إلى بضعة كيلومترات، يضطر الراجلون بينها –خصوصاً طلاب المدارس- إلى المجازفة بقطع السائلة، وتؤول خطى بعضهم إلى الاضطراب الذي يجعلهم احيانا يتسمرون في أماكنهم كضحايا مفترضين لسيارات بأرواح متهورة... ذات السيناريو يتكرر في شارع الستين والعديد من الشوارع المفتوحة في العاصمة وغيرها من المحافظات.. المشكلة ببساطة تتطلب مثل كل بلاد الله جسوراً حديدية بسيطة (مثل جسر المركزي بتعز الذي كان ايام زمااااان) تربط ضفاف الشوارع في الاماكن الحساسة، لتحمي ارواح العجزة والاطفال من وصول موت محقق، لكن يبدو أن المنظر الجمالي للسائلة الذي يقتضي جسوراً متناسقة مع لون احجارها، وخصوصية خط الستين السريع، اهم من عقد الحساب لعشرات الارواح التي تموت هناك سنوياً... (بصراحة انزعج كثيراً وأنا أتذكر أن جسر المشاة بمركزي تعز الذي تطير ذاكرتنا الطفولية إليه كلما تذكرنا طفولتنا هناك قد ازيح من مكانه لسبب انا وكثيرون مثلي لا يعلمونه)..
ذات الامر يتكرر في نقيل الابل، جنوب شرق الحوبان، الذي يعد مسرحاً للموت المجاني دائماً بعشرات الحوادث سنوياً، البعض يقول انه “مغناطيس” وآخرون يحيلونه إلى سائقي القاطرات، لكن النتيجة اياً كانت المبررات هي تكرار الحوادث في هذا الممر بشكل قاتل..
عند هذه النقطة انطفأت الكهرباء مساء الجمعة في العاصمة، ليضاف تساؤل جديد، لماذا لا يكون للاحزاب ومنظمات المجتمع المدني موقف من اختلالات تطال خدمات اساسية كهذه..
انطفأت كعادتها يومياً وفي أوقات غير منتظمة، نهضت بحنق وأنا استحضر بحنق المثل القائل«اشعال شمعة خير من لعن الظلام”.. هو مثل مستفز للغاية في مثل هذه الظروف خاصة عندما تكون على يقين ان الاتصال بشكاوى الكهرباء لن يضيف جديداً..
كنت أحس احياناً تفكيراً كهذا مؤرق للغاية حقاً، خصوصاً عندما تفكر أن هناك أطفالاً بمدارس بلا تعليم ومباني صحية بلا تطبيب، ومحطات كهربائية بلا طاقة، وآبار بلا مياه، ووديان بلا زراعة سوى نهابة حياة الناس من المياه (كما يحدث في قاع دم – ماوية مثلاً)، وشوارع مكتظة بالسيارات الخردة وأحدث الموديلات ومن يركب وسائل المواصلات العامة طالباً كان او عاملاً تصير دراسته او مستقبل عمله في المشمش لمجرد عطل متكرر في سيارة منتهية الصلاحية، أو حادث دراجة نارية مغامرة رمت بنفسها في مواجهة سيارة منفلتة.. كيف للانسان أن يأمن على حياته وقوته ومصدر رزقه وهو يعيش روتيناً يومياً كئيباً كهذا..
اصبح مشهداً مألوفاً ومثيراً للشفقة في آن واحد أن ترى الاكوام البشرية المختلطة من الطلاب والطالبات صباح وظهر كل يوم تقضي ساعات من وقتها على قارعة الطريق بانتظار باص يقلهم من وإلى الجامعة، هؤلاء الذين يفترض بغالبيتهم ان يكونوا من النخب لو سألت احدهم عن مشكلته لقال لك عدم توفر باصات الجامعة وليس تأجيل الانتخابات أو حرب صعدة او احتجاجات الجنوب، وذات مرة التقيت صديقاً في شارع الزبيري يطالبني أن اكتب عن باصات حدة - التحرير التي ترفض ايصال الركاب إلى التحرير وتعود من جولة الزبيري.. وزاد: انتم فرغ جالسين تهدروا على الفاضي وعمركم ما بتعملوا حاجة للناس..
مشكلة الطلاب هذه مضى عليها سنوات، وكتبت عنها بعض الصحف، وكل عام تزداد اكثر مع زيادة عدد الطلاب، وعدم تناسب عددهم مع حاجتهم من وسائل النقل خصوصاً أن انضمام باظ إلى فرزة مثل الجامعة - جولة تعز اصبح باهض الكلفة ويقتضي وساطة أو مستثمراً من العيار الثقيل بحسب سائقي الباصات انفسهم...
لكن ماذا لو تبنى اتحاد طلاب اليمن قضية كهذه.. أم أنها ليست ضمن اختصاصاته؟..
ماذا لو تفاوض الاتحاد مع ادارة المرور او مكاتب النقل لحل مشكلة عشرات الآلاف من الطلاب الذين يقفون يومياً أمام بوابة الجامعة لساعات وبشكل مرهق لهم جميعاً.. اضعف الايمان أن “يتحرش” الاتحاد في بياناته الجهات المعنية بقضية مواصلات الطلاب كما “يتحرش” – ديمقراطياً طبعاً- وبصفة دائمة بالحراسة الامنية للجامعة لتحويلها لحراسة مدنية..
ألا يستحق الامر التفكير واعادة النظر على الاقل عند انطفاء الكهرباء؟؟!..
الاكثر استفزازاً في الفترة الاخيرة خصوصاً في العاصمة وتعز وحتى في المدن الفرعية والارياف كثرة الدراجات النارية المنفلتة، ليس بسرقة الحقائب من الايادي كما قيل كمبرر لاعدامها سلفاً، لكن بحوادثها البشعة التي تزهق ارواح العشرات او تخلفهم جرحى يلزمون فراش المرض ربما الى الابد.. مع ذلك نجد صمتاً مريباً من السلطات وهي تقرر ان كثيراً من الحوادث تسببت بها الدراجات النارية.. والمضحك جداً المبرر القائل أنه طالما لا يوجد قانون ذكر بين سطوره كلمة دراجات نارية فإن على الدراجات ان تسرح وتمرح وتقفز فوق الارصفة وتلغي الشوارع وتنتهك حرمة التقاطعات، دون رقيب ولا حسيب، وفي النهاية “هو موتور صيني” لا قانون يحكمه، ولا هو “عرطة” “تتصلبط” عليه، وكما يقول المثل “البلدي” القائل (فِعْلُه عظيم... وقتله رُحِيم) ..
قبل اكثر من ثلاثة أعوام كان الحل بنظر السلطات هو مصادرة الدراجات النارية في العاصمة، وهو ما وقف ضده كثيرون كون الاجراء كان قاسياً، وعدا ذلك غابت الحلول الوسط في بلد الحكمة.. سأجرب الحكمة بكل سهولة واقترح: بالامكان -كما سبقت التجربة- ترقيم الدراجات النارية وجعلها بأوراق ملكية وتعيين شوارع غير رئيسية لعملها، والزامها بقوانين المرور، واحترام حرمة الشوارع وأوقات راحة الناس، وإلا فدراجات المرور “الفخمة” كفيلة بملاحقتها حتى لو دخلت “جحر ضب”، وليست بأقل حيلة من سيارات المرور والنجدة التي تلاحق السيارات المخالفة..
إن تنظيم المدن وتحديثها لا بد أن يكون له من تبعات سلبية، قد تكون مؤلمة، لكنها حتمية ولا بد من اتخاذها يوماً ما، وسيكون لها ذات التبعات إن نفذت مستقبلاً، وما يحدث في تعز نموذجاً لذلك وهو إجراء حتمي لا بد أن يأتي من يفكر باتخاذه سواء كان الملياردير شوقي هائل، أو اي شخص آخر يحترم الموقع الذي يشغله، ومهما بلغت البلد من درجات رقيها الاقتصادي والاجتماعي فإن اي خطوة تتخذها لا بد ان يكون لها تبعات سلبية، لكن ينبغي التقليل من آثارها قدر الامكان..
عوداً إليها، اقصد كهرباء العاصمة التي كنت انتظر الموعد المتوقع لتشغيلها بعد ساعتين، كما اعتدنا في غضون الشهر الاخير، لكني صفعت مرة أخرى برسالة اخبارية تقول ان انقطاع الكهرباء ناجم عن الامطار الغزيزة التي هطلت على العاصمة مساء الجمعة.. بالنسبة لشخص مثلي لم يعد يجد عملاً إلا بمفاتيح الكمبيوتر فإن تلك الرسالة كانت تعني انقطاع الامل والاستلقاء مبكراً واجبارياً على الفراش دون نوم، سوى تداول افكار مستفزة كهذه.
بعدها كانت رسالة اخرى تنقل عن مصدر محلي في العاصمة انه سيتم اصلاح الكهرباء في اسرع وقت.. وكان علي انتظار اسرع وقت هذا متى يتحقق.. وبالمناسبة لكم أن تتخيلوا أن الناس في الراهدة مثلاً انطفأت الكهرباء عليهم ذات مساء مطلع التسعينات كعادتها، وباتوا منتظرينها “تولع”، لكن انتظارهم طال إلى عشر سنوات تقريباً..
غالبية ابناء الشعب اليمني يفكرون بالكهرباء وهموم الحياة اليومية ولا يفكرون بالاصلاح السياسي ولا بالنظام الانتخابي ولا الانتخابات وعندما يسمعون عن القائمة النسبية يحسبونها احدى المواد الغذائية المحتكرة على أبناء الذوات ولا يفكرون مطلقاً بشرائها.. الناس غارقون في هموم لقمة العيش وصون اطفالهم من الضياع وحماية ارواحهم من المرض، وتأمين سلامتهم من حوادث السير القاتلة.. نجيب عبدالله علي.. شاب حديث العهد بالزواج من قرية المصاعد بمديرية ماوية يضحك بمرارة من غلاء المعيشة “الناس كانوا زمان يروحوا يشتغلوا ويغتربوا سنة كامل على شان يعمروا بيت او يشتروا سيارة... الان تجلس تشقي وتآلب (تجمع) لمدة نصف شهر على شان تشتري كيس دقيق وكسيرة سكر”، ونجيب هذا يعمل مثل غيره باليومية في مزارع القات التي يلهف خيراتها شلة الكبار، وينفض غبارها العاملون الغلابي بما يسد الرمق.
“ولعت الكهرباء” أخيراً.. لم يكن هناك اسوأ من انتظارها إلى أجل غير مسمى، امتد في حالتي هذه الى ازيد من اربع ساعات وأنا لا أجد ما اعمله سوى انتظار عودتها او محاولة النوم عندما تصطدم عقارب الساعة بمؤشر منتصف الليل...
كان ذلك الانتظار صعباً بكل ما رافقه من افكار ايجابية أو تدرك أحياناً أنها ساذجة بعد أن تتذكر أنك فكرت ان حنفيات المطبخ تعمل والموبايل يستقبل رسائل، والتلفون الثابت يرن والناس على قيد الحياة والكهرباء “طافي”...
لكن يبدو الاصعب منه انتظار صحوة الحكومة والاحزاب ومؤسسات الدولة لتلتفت يوماً إلى ان هناك شعباً يريد في الوقت الحالي وعلى المدى القصير والمتوسط أن يعيش فقط..
هم كالكهرباء “مفصولون” عنه.. بالاصح هم مثل كهرباء الراهدة لا امل ان “يولعوا” قريباً..
* نشر هذا المقال في ملحق الديمقراطية التابع لجريدة الجمهورية الرسمية الصادرة من تعز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق