تعدد طرح المبادرات اليمنية في كل اتجاه، حتى فقدت قيمتها وصارت نوعا من التذكير بالحضور لا أكثر. لم يكتب لأي مبادرة النجاح، وكانت الدبلوماسية اليمنية تكتفي بأن يقال إن اليمن قدمت مبادرة. ومن مبادرات حول القرن الأفريقي، إلى الكومنولث، إلى إصلاح الأمم المتحدة، إلى شرق آسيا، إلى الجامعة العربية، لم يع النظام اليمني، من؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ يطرح المبادرة، وما هي إنجازاتنا في الإصلاح، أو فائض خبرتنا في التنظيم والتوحيد، أو تجاربه في العمل المشترك. قبل أن يشارك الرئيس في قمة الدوحة لم يكن واضحا عزم النظام اليمني على طرح المبادرة اليمنية حول الأتحاد العربي، وتقريبا كان الرئيس قد أشار إليها في قمة الكويت مؤخرا. وفجأة قالت الأنباء إن الرئيس قاطع الجلستين المغلقة والختامية في قمة الدوحة، بسبب عدم إتاحة الفرصة لطرح المبادرة اليمنية. والمؤسف أن مقاطعة الرئيس للجلسات لم تلفت الانتباه، ولم تحض بتعاطف يذكر، وإنما مرت كأمر عادي في الزحمة، لم يُشَر إليها إعلاميا إلا بعد النهاية.
المبادرة مرفوعة للقمة من البرلمان العربي، والبرلمان العربي ليس رافعة قوية، فحال البرلمانات العربية متشابه، في أثرها وقوتها. ولو كانت المبادرة مهمة لدخلت في جدول أعمال القمة، دون الحاجة لموقف يمني ما، لكن يبدو أن أهميتها لليمن كان أكثر من غيرها، سواء لدول المركز أم لدول الأطراف، وهذا راجع لتقديرات رسمية يعلمها الراسخون في القمم والمبادرات. الوضع العربي غير مشجع لطرح أي أفكار أو مبادرات، وطابع القمة تصالحي، ومؤسسة القمة العربية منقسمة على حالها، والجامعة العربية في أضعف ما تكون، والاتحاد العربي ليس ملحا اليوم، على الأقل لدى بقية الدول العربية. ومع ذلك، وبإصرار عجيب، تم طرح المبادرة، وقاطع الرئيس الجلستي المغلقة والختامية، وهو موقف محرج للدبلوماسية اليمنية ولليمن، ولا أعلم أين دور الخارجية هنا في التحضير وجدول الأعمال. واضح أن الحاضرين في القمة كانوا غير مستعدين لبحث المبادرة من حيث المبدأ، ولو كانوا مستعدين لناقشوها في اجتماع وزراء الخارجية وأقرت في جدول الأعمال. ثم أين حلفاء النظام المعتدلين، والسعودية على رأسهم، رغم غياب اليمن عن قمة الدوحة التي دعت إليها بداية حرب غزة مسايرة للموقف السعودي، مضحية بموقفها القومي، وإذا بالشقيقة الكبرى لم تعر أي انتباه للمبادرة أو لغياب الرئيس عن الجلستين احتجاجا. سماع القادة العرب لمبادرة الاتحاد العربي من الرئيس، ما كان ليغير قناعاتهم، أو يفرض عليهم أمرا لا يريدونه. كان عليهم أن يصغوا فقط، ولو من باب جبر الخواطر، ومبادرة تقرأ والسلام، لكن أبوا واستكبروا. والواضح أن القادة العرب لم يتعودوا الإنصات لشعوبهم ولا لبعضهم، ينصتوا للأقوى فقط، يتصالحوا لكي يتخاصموا، ويلتقوا لكي يفترقوا. ويكاد يكون معيار نجاح القمة قصر وقت انعقادها، وأفضل قمة التي تخلص في يومها، ويعودوا لبلدانهم سريعا قبل أن يختلفوا، لا يهم، "من حنق له حنق"، من غاب غاب، المهم جلسة الافتتاح، وتبادل الرئاسة الدورية، وهي الشيء الوحيد الذي يتبادله قادة العرب سلميا. تبدأ الجلسات فإذا بواحد يقاطع، وآخر يطالب بالسكوت واحد يخاف، واحد "يزعل"، واحد يعتذر، واحد يشكر، واحد "يحنق"، وذاك يريد أن يعترض، وهذا يغيب، واحد عنده كلمة أو طلب، وواحد مبادرة، وواحد يبحث عن اعتراف وإشادة... أهم ما في القمة أشخاص الحكام، وتصالحهم أهم منجز، يكاد المتصالحون ينفجرون من الغيظ، ولا يكلف أحد نفسه إضفاء لمحة قبول بالآخر على صورة الصلح المزعومة، وعلينا أن نصدق أن هذا تصالح.
في هذا الجو، ووسط هذا الاستعجال، يكون طرح مبادرة ما مغامرة، إذا ما حمل الأمر على السلامة، وحضور قمة لا يشترط إطلاق مبادرة، فمجرد طرح المبادرة ليس مكسبا سياسيا لليمن، ولا حجة لها على الآخرين، وبالتالي لم تكن تحتاج كل هذا التصميم، ولا غياب ومقاطعة رئيس الجمهورية للجلسات، والتبرير الحكومي بأن الاتحاد العربي سيظل قائما لدى اليمن لأنه يستهدف عصب المشكلات وتطوير العمل العربي وبنية الجامعة، تبرير لا معنى له، ولا يقدم ولا يؤخر، إلا إذا كنا نبحث عن "طبطبة" وترضية كلامية، من هذا أو ذاك تضمد جراح سياستنا المرتجلة وتتلافى حرج دبلوماسيتنا وتعيد اعتبار اليمن (المبادراتية) المكرورة.
ما حدث في قمة الدوحة درس سياسي ودبلوماسي يجب الاستفادة منه، يمنيا، في المستقبل، ليس في طرح المبادرات وحسب، بل وفي معرفة إمكاناتنا، والتفريق بين التعامل المحلي والخارجي، وعوامل التأثير، ومدى الالتزام بالمواقف، والجدية، والمصداقية، و الاستقلالية، وحل مشكلات الداخل أولا، واحترام الشعب وحقوقه وحرياته... ما حدث في الدوحة ليس الموقف المحرج الأول الذي واجه الرئيس في القمة، سبق ذلك موقف محرج في قمة عام 90 بالقاهرة، لكن الموقف الأخير مختلف جدا، كان الموقف الأول محرج ومتعنت من الرئيس مبارك تجاه الرئيس صالح، الذي كان يدافع عن فكرة وموقف، ضمن مجموعة عربية، وكانت اليمن في بداية الوحدة وزهوها، وكان الناس متعاطفين مع الرئيس. أما في الدوحة مؤخرا فالأمر آخر تماما، التوفيقية هي السائدة في القمة، وأولويات النظام العربي الرسمي لا يتجاوز حدود مصالحة حفظ دور هذا، وتحديد حجم ذاك، لم يكونوا بوارد مبادرات من أي نوع، بل إن مبادرات فردية يمنية ضخمة (اتحاد عربي) تبدو في هذا الوضع غير واقعية وفي الوقت الضائع، وقد تعتبر هروبا من الاستحقاقات الوطنية، والمشكلات المحلية. ثم ما هو رصيدنا وخبرتنا؟ الوحدة اليمنية اليوم لم تعد بزهو ومشاعر وحدة مايو90، جسدها مليء بندوب الأخطاء، وغبار الفيد لم ينقشع بعد، ورغم خطورة القضية الجنوبية، فهي رسميا غير معترف بها كقضية. وهناك حرب مرت عليها خمس سنوات، لم تغلق بعد تحولت فيها صعدة ساحة تجارب ومناورات سعودية على حساب الدماء اليمنية، فيما تتعالى صوت حسرة رسمية على وقف الحرب. واقع الانفلات والتحلل أصعب من النكران اليوم. فيما الفساد يتغَوّل أكثر، والغلاء يكشِّر عن أنيابه بقوه، والديمقراطية، والتعددية، والحرية، والتنمية، والقانون، والقضاء المستقل، صارت شواهد أحلام مجتمع، وطموح شعب لم يُحرج حكامه، ولم يشمت بهم، وهو أحوج لمبادرات جادة تخفف معاناته، وأحقُّ بغيرة الرئيس عليه والاهتمام بحل مشاكله وتطويره وصون حقوقه وأمنه وحفظ سيادته وتنميته. وتحقيق ذلك وطنيا لا يتناقض مطلقا مع التوجه القومي، بل هو التعزيز الحقيقي للعمل القومي، لأن النظام الوطني الجيد هو القومي الجيد والإسلامي الجيد، والإنساني الجيد، وهو الجدير باحترام الجميع، وإذا كان ولا بد من مبادرات يمنية فلتكن للداخل ولنحرم العرب والعالم من مبادراتنا، ونكفي أنفسنا الإحراج. يفترض تجاوز ما حدث في القمة وعدم تحويله إلى مادة للمزايدة، أو الهجاء. كما لا يفترض أن تصبح المبادرة إلى محددات للسياسة الخارجية اليمنية، لكن لا بد من مراجعة رسمية للأولويات، والإيمان بالداخل ومبادرات للداخل أولا، ومعرفة أن الرهان على كسب احترام وود الشعب هو الأجدى والأنفع لكسب ود واحترام الآخرين، وأيضا مساعداتهم وقروضهم. إن سياسة القفز على مشكلات الداخل لم تعد مجدية ولا تلفت الأنظار. كما أن مبادرات "نحن هنا" دبلوماسية مملة، أضعف من أن تخفي سوء الأوضاع محليا، أو تدهش أحد خارجيا.
alkhaiwani@gmail.com
المبادرة مرفوعة للقمة من البرلمان العربي، والبرلمان العربي ليس رافعة قوية، فحال البرلمانات العربية متشابه، في أثرها وقوتها. ولو كانت المبادرة مهمة لدخلت في جدول أعمال القمة، دون الحاجة لموقف يمني ما، لكن يبدو أن أهميتها لليمن كان أكثر من غيرها، سواء لدول المركز أم لدول الأطراف، وهذا راجع لتقديرات رسمية يعلمها الراسخون في القمم والمبادرات. الوضع العربي غير مشجع لطرح أي أفكار أو مبادرات، وطابع القمة تصالحي، ومؤسسة القمة العربية منقسمة على حالها، والجامعة العربية في أضعف ما تكون، والاتحاد العربي ليس ملحا اليوم، على الأقل لدى بقية الدول العربية. ومع ذلك، وبإصرار عجيب، تم طرح المبادرة، وقاطع الرئيس الجلستي المغلقة والختامية، وهو موقف محرج للدبلوماسية اليمنية ولليمن، ولا أعلم أين دور الخارجية هنا في التحضير وجدول الأعمال. واضح أن الحاضرين في القمة كانوا غير مستعدين لبحث المبادرة من حيث المبدأ، ولو كانوا مستعدين لناقشوها في اجتماع وزراء الخارجية وأقرت في جدول الأعمال. ثم أين حلفاء النظام المعتدلين، والسعودية على رأسهم، رغم غياب اليمن عن قمة الدوحة التي دعت إليها بداية حرب غزة مسايرة للموقف السعودي، مضحية بموقفها القومي، وإذا بالشقيقة الكبرى لم تعر أي انتباه للمبادرة أو لغياب الرئيس عن الجلستين احتجاجا. سماع القادة العرب لمبادرة الاتحاد العربي من الرئيس، ما كان ليغير قناعاتهم، أو يفرض عليهم أمرا لا يريدونه. كان عليهم أن يصغوا فقط، ولو من باب جبر الخواطر، ومبادرة تقرأ والسلام، لكن أبوا واستكبروا. والواضح أن القادة العرب لم يتعودوا الإنصات لشعوبهم ولا لبعضهم، ينصتوا للأقوى فقط، يتصالحوا لكي يتخاصموا، ويلتقوا لكي يفترقوا. ويكاد يكون معيار نجاح القمة قصر وقت انعقادها، وأفضل قمة التي تخلص في يومها، ويعودوا لبلدانهم سريعا قبل أن يختلفوا، لا يهم، "من حنق له حنق"، من غاب غاب، المهم جلسة الافتتاح، وتبادل الرئاسة الدورية، وهي الشيء الوحيد الذي يتبادله قادة العرب سلميا. تبدأ الجلسات فإذا بواحد يقاطع، وآخر يطالب بالسكوت واحد يخاف، واحد "يزعل"، واحد يعتذر، واحد يشكر، واحد "يحنق"، وذاك يريد أن يعترض، وهذا يغيب، واحد عنده كلمة أو طلب، وواحد مبادرة، وواحد يبحث عن اعتراف وإشادة... أهم ما في القمة أشخاص الحكام، وتصالحهم أهم منجز، يكاد المتصالحون ينفجرون من الغيظ، ولا يكلف أحد نفسه إضفاء لمحة قبول بالآخر على صورة الصلح المزعومة، وعلينا أن نصدق أن هذا تصالح.
في هذا الجو، ووسط هذا الاستعجال، يكون طرح مبادرة ما مغامرة، إذا ما حمل الأمر على السلامة، وحضور قمة لا يشترط إطلاق مبادرة، فمجرد طرح المبادرة ليس مكسبا سياسيا لليمن، ولا حجة لها على الآخرين، وبالتالي لم تكن تحتاج كل هذا التصميم، ولا غياب ومقاطعة رئيس الجمهورية للجلسات، والتبرير الحكومي بأن الاتحاد العربي سيظل قائما لدى اليمن لأنه يستهدف عصب المشكلات وتطوير العمل العربي وبنية الجامعة، تبرير لا معنى له، ولا يقدم ولا يؤخر، إلا إذا كنا نبحث عن "طبطبة" وترضية كلامية، من هذا أو ذاك تضمد جراح سياستنا المرتجلة وتتلافى حرج دبلوماسيتنا وتعيد اعتبار اليمن (المبادراتية) المكرورة.
ما حدث في قمة الدوحة درس سياسي ودبلوماسي يجب الاستفادة منه، يمنيا، في المستقبل، ليس في طرح المبادرات وحسب، بل وفي معرفة إمكاناتنا، والتفريق بين التعامل المحلي والخارجي، وعوامل التأثير، ومدى الالتزام بالمواقف، والجدية، والمصداقية، و الاستقلالية، وحل مشكلات الداخل أولا، واحترام الشعب وحقوقه وحرياته... ما حدث في الدوحة ليس الموقف المحرج الأول الذي واجه الرئيس في القمة، سبق ذلك موقف محرج في قمة عام 90 بالقاهرة، لكن الموقف الأخير مختلف جدا، كان الموقف الأول محرج ومتعنت من الرئيس مبارك تجاه الرئيس صالح، الذي كان يدافع عن فكرة وموقف، ضمن مجموعة عربية، وكانت اليمن في بداية الوحدة وزهوها، وكان الناس متعاطفين مع الرئيس. أما في الدوحة مؤخرا فالأمر آخر تماما، التوفيقية هي السائدة في القمة، وأولويات النظام العربي الرسمي لا يتجاوز حدود مصالحة حفظ دور هذا، وتحديد حجم ذاك، لم يكونوا بوارد مبادرات من أي نوع، بل إن مبادرات فردية يمنية ضخمة (اتحاد عربي) تبدو في هذا الوضع غير واقعية وفي الوقت الضائع، وقد تعتبر هروبا من الاستحقاقات الوطنية، والمشكلات المحلية. ثم ما هو رصيدنا وخبرتنا؟ الوحدة اليمنية اليوم لم تعد بزهو ومشاعر وحدة مايو90، جسدها مليء بندوب الأخطاء، وغبار الفيد لم ينقشع بعد، ورغم خطورة القضية الجنوبية، فهي رسميا غير معترف بها كقضية. وهناك حرب مرت عليها خمس سنوات، لم تغلق بعد تحولت فيها صعدة ساحة تجارب ومناورات سعودية على حساب الدماء اليمنية، فيما تتعالى صوت حسرة رسمية على وقف الحرب. واقع الانفلات والتحلل أصعب من النكران اليوم. فيما الفساد يتغَوّل أكثر، والغلاء يكشِّر عن أنيابه بقوه، والديمقراطية، والتعددية، والحرية، والتنمية، والقانون، والقضاء المستقل، صارت شواهد أحلام مجتمع، وطموح شعب لم يُحرج حكامه، ولم يشمت بهم، وهو أحوج لمبادرات جادة تخفف معاناته، وأحقُّ بغيرة الرئيس عليه والاهتمام بحل مشاكله وتطويره وصون حقوقه وأمنه وحفظ سيادته وتنميته. وتحقيق ذلك وطنيا لا يتناقض مطلقا مع التوجه القومي، بل هو التعزيز الحقيقي للعمل القومي، لأن النظام الوطني الجيد هو القومي الجيد والإسلامي الجيد، والإنساني الجيد، وهو الجدير باحترام الجميع، وإذا كان ولا بد من مبادرات يمنية فلتكن للداخل ولنحرم العرب والعالم من مبادراتنا، ونكفي أنفسنا الإحراج. يفترض تجاوز ما حدث في القمة وعدم تحويله إلى مادة للمزايدة، أو الهجاء. كما لا يفترض أن تصبح المبادرة إلى محددات للسياسة الخارجية اليمنية، لكن لا بد من مراجعة رسمية للأولويات، والإيمان بالداخل ومبادرات للداخل أولا، ومعرفة أن الرهان على كسب احترام وود الشعب هو الأجدى والأنفع لكسب ود واحترام الآخرين، وأيضا مساعداتهم وقروضهم. إن سياسة القفز على مشكلات الداخل لم تعد مجدية ولا تلفت الأنظار. كما أن مبادرات "نحن هنا" دبلوماسية مملة، أضعف من أن تخفي سوء الأوضاع محليا، أو تدهش أحد خارجيا.
alkhaiwani@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق