حسين الوادعي |
صديقي الذي مر سريعا بصعده وضعني وجها لوجه امام حقيقة
الوضع في المحافظة التي صارت خارج الوطن منذ سنوات..
بعبارة واحدة يمكن اختصار وضع صعده بانها "المحافظة
الرهينه" .
المليشيا لا "تحكم" المدينة ولكنها "تسيطر"
عليها امنيا وتتحكم في المجال العام. اما سيرورة الانتاج والحياة اليومية في
محافظة تعيش على الزراعة فهي تظل في يد المواطن العادي الذي يستمر في الزراعة في ظروف
صعبة دون اي دعم او مساندة من الدولة او من الميليشيا المسيطرة.
يكاد ينحصر النشاط "الانتاجي" الوحيد
للميليشيا في جباية الخراج (جمع الزكاة والاستيلاء المستمر على غنائم "الفتح"
سواء كانت اراضي الدولة او اراضي الخصوم وبيوتهم).
لم يعد هناك حياة عامه في صعده بالمعنى الثقافي
والاجتماعي والسياسي خارج سيطرة الميليشيا. فالمجال العام اصبح مملوكا لجهة واحدة
وفكر واحد يفرض نفسه بالعنف واذا لم يكن العنف كافيا يتم فرضه بالارهاب.
ومن اللافت للنظر ان قرار "حل الاحزاب" قد تم
تطبيقة بشكل عملي في صعده. فمقرات المؤتمر والاشتراكي والاصلاح مغلقة منذ سنوات
بعد ان استولت عليها المليشيا. واخر نشاط سياسي علني مارسته هذه الاحزاب يعود إلى
ما قبل 2011 بكثير!!
صعده ايضا لم تسمع الموسيقى منذ سنوات. جرى اغلاق كل
محلات الاغاني، اما الات تشغيل الاغاني في السيارات فهي صامتة او تترنم بزوامل
الحرب والجهاد.
اما المراة فهي مجبرة على السير وهي مغطاة (على طريقة
طالبان) من قمة راسها حتى اخمص قدميها. وتسعى اللجان الامنية للميليشيا الى فرض
منع الاختلاط بنشاط كما صارت النساء تمنع من دخول المباني الحكومية لاكمال
المعاملات بدون محرم. وقد لاحظ صديقي حالة الرعب التي تعيشها المراة والخوف الدائم
من تدخلات اللجان الامنية. اما مرور امراة مكشوفة الوجه في صعده فصار من رابع
المستحيلات.
ورغم سيطرتها على المؤسسات الحكومية بشكل كامل في صعده
وعمران والجوف الا ان مهام هذه الجهات تتحول من تقديم الخدمة الى الرقابة الامنية
على تقديم الخدمات وربما عرقلة الخدمات احيانا. (صعده مثلا هي المحافظة الاقل في
معدل التحصين والاعلى في مستوى الجوع!)
هناك حالة صمت شاملة تخيم على اسواق صعده وقراها. هذا
الصمت الداخلي نتاج لاكثر من 10 سنوات من الحروب والانتهاكات التي قادها الطرفان (الميليشيا
والدولة) ضد المواطن الصعدي. وكانت ذروة الماساة تدخل الطيران السعودي في بعض
الحروب ليقع المواطن الصعدي ضحية قصف عشوائي ثلاثي.
هذا العنف والارهاب والقتل الذي تعرض له مواطنو صعده حول
الصمت الخارجي الى صمت داخلي قاس. المواطن الصعدي هو المواطن اليمني الوحيد الذي
لا يتحدث في السياسة ولا يجيب على اسئلتك السياسية. فالسياسة بالنسبة له هي الموت
او الحبس او الاختطاف.
حتى "مؤتمر الحوار الوطني" كان ضربة مؤلمة
للمواطن الصعدي عندما اعتبر ان "قضية صعده" هي قضية الحوثيين وليس قضية
المواطن الذي تعرض لابشع انواع الحرب والارهاب وتفجير المنازل وتلغيم الاراضي
والاختطاف والتعذيب لعقد كامل من الزمان. حالة الصمت الداخلي الحجري في صعده تتحول
احيانا الى بكاء غير مرئي تحت وطاة الاحساس باللاجدوى والضياع.
والخطير في الامر ان هناك محاولات حثيثة لتحويل صعده الى
(ثقافة فرعية) يتم تعميمها فيما بعد على مستوى اليمن. عبارات "الشهادة" والشهداء
المكتوبة على جدران البيوت، وتقديس الائمة واعتبارهم سلاله نصف الهية، وذلك العزل
السلالي الواضح بين الهاشميين والقبائل ينذر باحداث شرخ مجتمعي خطير خاصة في ظل
استئثار الهاشميين باغلب المناصب والمنافع وحصر وظائف القبائل في الحراسة والقتال
والاسشهاد.
في اغلب مديريات صعده سوف تشاهد لوحات "روضه
الشهداء" تطالعك اينما سرت. وهذه "الرياض" ليست الا المقابر التي
اقامتها الميليشيا للاطفال والمراهقين وبعض الكبار الذي قتلوا في حروبها مع الدولة.
يتجاوز دور المقابر تكريم الموتى الراحلين الى تاسيس ثقافة الشهادة والموت داخل
الجيل الجديد لصعده.
وحتى بعد السيطرة الشاملة للميليشيا لا زال لها سجونها
الخاصة ومحاكمها الخاصة وجهازها الادراي الخاص الذي يسيطر وينفذ نيابة عن الدولة
والمجتمع.
هذا النموذج للسيطرة البوليسية الشاملة ومصادرة المجال
العام لصالح راي واحد مفروض بالعنف يجري محاولة تعميمه في بقية المحافظات "المفتوحه".
تتحول اي مدينة تسيطر عليها المليشيا الى رهينة. تعيش
حالة شبيهه بحالة الاقامة الجبرية. ويتحول مفهوم الامن من تطبيق القانون والحد من
الجرائم الى ملاحقة الخصوم بالاختطاف والتعذيب والسجن. اما الخراج فيتم الاستمرار
في جمعه عبر النهب والاتاوات الجبرية والاقتحام المستمر للمؤسسات والبيوت
والمعسكرات.
المواطن كتلة غير مرئية بالنسبة للميليشيا..فما هو خارج
الميليشيا غير موجود..واذا تم الاعتراف بوجوده ليس امامه الا علاقة الطاعه
والاذعان في سيناريو المحافظات الرهينه..
الحكومة تتحمل ايضا مسؤولية ما حدث لصعده. والحل
الوحيد لعودة صعده للوطن هو تحول الجماعة المنتصرة الی حزب سياسي مدني يعمل في
فضاء مفتوح لكل الاطياف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق