يجمع الحوثيون بين الحسنيين في اتهاماتهم وهي"
الداعشية التكفيرية" هذا لمن يهمه الدين، و تهمة"
البرجوازية" كتثقيف
يساري لبعض الطارئين على الجماعة الدينية التي عجزت عن تطوير خطابها الديني
والوطني فاستعاضت عنه بخطاب يساري شديد التشوه ولا يمتلك سوى مصطلحات رنانة.
ميساء شجاع الدين |
من المثير للسخرية فعلاً أن نقرر جماعة دينية تبني
خطاب أيديولوجي يخالف جذرياً أصول هذه الجماعة وهي الطبيعة الدينية. للجماعات
الدينية منطلقات مختلفة كلياً فهي تتعامل مع العمل السياسي بمنطق المقدس وعادة لها
زعامات دينية وتكوينها يحتم فرضية الطاعة، واضافة لاستمدادها الشرعية من النص
المقدس فهي تستمده أيضاً من الماضي وقراءتها الخاصة له. أما اليسار فهو أيديولوجية
علمانية حديثة،لها جذور اشتراكية طوباوية قبل ذلك ،لكن أصول نظريتها تعود للقرن
التاسع عشر، حينما شهدت أوروبا الثورة الصناعية وتوسعت المدن وقامت على أساس فكرة
الصراع الطبقي الذي فرضته الثورة الصناعية آنذاك.
بالطبع لا يمكن لعبدالملك الحوثي أن يهتف لأنصاره
ويدعوهم بالبروليتاريا فهذا يناقض حقيقة إنهم أنصار الله، البروليتاري كجماعة
طبقية لها مصالحها المتضاربة مع البرجوازية تبدو فكرة مناقضة تماماً لأنصار الله ومعاركهم
الإلهية ضد من يدعونهم دواعش. يكفي الحوثيون إنهم ممثلين لله والشرعية الحق كما
تفترض الجماعات الدينية، فلماذا الإصرار على هذه الشعارات؟
يسعي الحوثيون ضمن رطانتهم الثورية تصوير إن ما
يجريعلى أنها ثورة للفقراء والكادحين ضد الفساد وهو إصلاحي في غالب الأمر وليس
مؤتمري، أي فساد انتقائي حسب ما تقتضي تحالفاتهم السياسية. انتقاء الإصلاح هو
تعزيز للطابع الديني للصراع وليس الطبقي كما تدعي " اليسارية الحوثية"! فلماذا
يتم استثناء فاسدي حزب المؤتمر وعلى رأسهم علي عبدالله صالح؟
وجود طبقة فاسدة وانتهازية على رأس الدولة اليمنية
لا يعني بالضرورة وجود صراع طبقي في مجتمع تقليدي لم تؤثر فيه انماط التحديث
المتشوهة التي يمر بها، وليس هناك فواصل قطعية حادة وواضحة بين الطبقات الاقتصادية
حيث لا يزال يغلب على المجتمع اليمني الانقسامات القبلية والمناطقية، وربما
الدينية بعد ما غابت حتى الإنقسامات الإيديولوجية والحزبية ليحل محلها الدين وهذا
يتضح من سر اصرار جماعة الحوثي وسيدها عبدالملك للإشارة لحزب الإصلاح في كل شاردة
و واردة رغم إن اليمن حكمها علي عبد الله صالح وحزبه المؤتمر لذي يتغلغل فيه الفساد
ولا يكتفي ببضعة مراكز وشخصيات كالإصلاح.
إضفاء شرعية ثورية طبقية متهافتة على الحدث هو
مخرج كتيبة الصحفيين والممثقفين المتحوثين، ولأن محاولة إضفاء طابع ثوري على
تحركات الحوثي العسكرية يوقعهم في تناقض جلي لذا يحاولون حشر بعض المصطلحات
اليسارية للحدث، وله علاقة أيضاً بتجاهل طبيعة الوضع اليمني الذي يستعصي عن
التفسير التقليدي من حديث عن الصراع القبلي والسلطة والخ أو التفسير الماركسي
المستعار. مافعله الحوثي ويفعله له عدة تفسيرات تاريخية وسياسية واجتماعية، فيما
يراه الكثيرون غزو قبلي همجي لمدينة صنعاء. هذه طبعاً ليست المرة الأولى في
التاريخ التي تدخل صنعاء القبائل لنهبها وكان آخرها عام 1948م وهو أمر مرتبط
بالتاريخ الإمامي إلى حد كبير .
صنعاء هي الحاضرة الأكبر في اليمن الذي تقطن
غالبيته الريف بنسبة تصل إلى 70% وهي نسبة كبيرة تعيق أي عملية تحديث وتنسف كل
النظريات الحديثة والمعاصرة في تفسير الوضع اليمني. وغالبية من يسكنون الحضر هم
سكان العاصمة صنعاء أكبر حواضر اليمن وأكثرها تنوع على الإطلاق، أي إن صنعاء في
العشرين سنة الماضية وبعد تراجع عدن وتعز تعرضت لعملية تغير واسعة وديناميكية بين
أفراد مجتمع يتشكل متجاوزاً البنى التقليدية من قبيلة أومنطقةأوأسر كبيرة، يتبدى
هذا بوضوح في علاقات النسب والزواج التي تحدث داخل مجتمع مدينة صنعاء الذي لا
تحكمه منظومة قيم واحدة بسبب التباين الشديد في خلفيات سكانها لكنها كانت في طور
التشكل وتشكلت فيها بالفعل نواة لمجتمع مدني ظهر من خلال المظاهرات والاحتجاجات
السلمية التي شهدتها المدينة السنوات الماضية وكان أبرزها عندما شهدت تحرك عام 2011م
المنطلق من ساحة الجامعة وهذا أمر له دلالة رمزية مهمة.
بعكس ما جري عام 2011م جاء تحرك الحوثي الشعبي من
خارج صنعاء بمحطيها القبلي، في أكبر عملية اكتساح قبلي - ريفي لأكبر حواضر اليمن. هي
مجاميع قبلية من مناطق محرومة من التنمية وربما قلة يعرفون إن صعده التي كانت خارج
الدولة اليمنية حتى تعين أول محافظ لصعده عام 1980م. بالتأكيد ليس ذنب هؤلاء إنهم
يعيشون في مناطق بلا تحديث ولا تنمية تعاني الجهل والفقر.
المجتمع اليمني لديه قابلية عالية للتغيير
والتحديث وما جرى ستينات القرن الماضي دليل دامغ على هذا، فاليمن التي كانت مثل
بقية الجزيرة العربية التي لم تتعرض لاستعمار تعيش حالة تخلف شديدة لكنها نجحت من
خلال المهاجرين و وجود نافذة صغيرة للعالم كعدن وابتعاث مجموعة شباب للخارج
وانتشار محدود للراديو أن تقوم بقفزة هائلة للأمام وتنطلق فيها بثورتي سبتمبر
وأكتوبر.
معظم اليمن الذي كان يقع خارج القرن العشرين وسيلة
مواصلاته الأساسية الحمير والبغال ،انتقل في غضون عشرين عاماً خاصة حواضره الكبيرة
إلى نمط حياة مختلفة. اللافت في هذا التحول إنه شهد في سنوات قليلة ومضطربة انتعاش
فني وأدبي وخرجت المرأة بكثافة للمشاركة في كل مجال. لم تشهد اليمن كمعظم الدول
العربية عندما بدأ تحديثها جدل حول تعليم المرأة مثلاً، اليمن الجنوبي كان فيه
أكثر قوانين الأسرة انفتاحاً في العالم العربي بينما كانت هناك سينما في اليمن
الشمالي ،صنعاء وتعز والحديدة والترب ،حتى بدأ المد الوهابي مدعوماً من السلطة في
الثمانينات .
ثورتي سبتمبر واكتوبر كانت ثورات شعبية من الطراز
الأول لشعب معظمه يسكن مناطق ريفية وقبلية لكن الفارق هنا يتجلى في طبيعة التحرك
وقيادته، التحرك له بعد وطني يفترض التنوع، والقيادة متعددة الشخصيات ومتنوعة
الايديولوجيات. التنوع لا تفرضه الكثرة، فالكثرة هي عدد لكن التنوع في الجماهير هو
تمثيلها لخلفيات متباينة ( مناطقية- سياسية) بينما الحوثي كان له آلاف الأنصار
كلهم من ذات الخلفية منطقة وطائفة وتشكيل سياسي، أي إنها جماهير مقولبة طائفيا .
الفارق بين الجماهير الكادحة عندما تكون ملهمة هو
توحدها حول فكرة وطنية واحدة لايشوبها التناقض كما يجري لدي الحوثي الذي يحتفظ
بنصف الفاسدين ويخطب لأنصاره خطاب ديني بينما يهاجم خصومه على الصحف بخطاب يساري. هذه
حركة جماهيرية يتم تحريكها بمنطق ديماغوجوي أي منطق تغلب عليه الشعارات ويحرك
الغرائز ومعظم هذه التحركات الجماهيرية قد يقودها أناس يحتقرون الجماهير ذاتها مثل
موسوليني. هم ينظرون للجماهير بإعتبارها كائن غير عاقل تحركه الإنفعالات وهذا صحيح
لحد كبير، لذا التحرك الجماهيري تحكمه عدة عوامل فهو قد يحمل معه الفوضى وقد يحمل
معه الثورة، قد يحمل تغيير لأفضل وقد يحمل نكسة.
يصعب إدانة كل التحركات الجماهيرية وإلا لما شهدنا
أي عملية تغيير ثوري في مناطق متعددة بأوروبا وأمريكا اللاتينية لكن حتى الحركات
العنصرية التي يدينها التاريخ وتخالف القيم الإنسانية قادرة على تحريك الشارع
وتتبعها جماهير هائلة مثل الفاشية بإيطاليا والنازية بألمانيا وحتى الآن الأحزاب
العنصرية المعادية للهجرة في أوروبا تملك قدرة جيدة على الحشد سواء على مستوى
الشارع أو الانتخابات. لذا يجب الحذر من فكرة التقييم على أساس العدد، وإن كان
العدد الكبير للخروج الجماهيري رسالة مهمة تستحق الدراسة، فخروج هذه الجماهير وراء
الحوثي من مناطق نائية محرومة من الخدمات رسالة مهمة لسكان العاصمة اللا مبالين
يما يجري خارج عاصمتهم.
الجماهير لا تخرج بطره بل تحركها مخاوفها أو
تطلعاتها، غرائزها أو أحلامها لكن ليس وعيها بالغالب خاصة في بلد تنتشر فيه الإمية
والتعليم الهزلي مثل اليمن. خروج الجماهير ضمن اطار وطني واسع من داخل مركز حضري
ضمن قيادات متنوعة وحركات سياسية مختلف أمر يناقض كلياً خروج جماهير من داخل الريف
أو المناطق القبلية بلا اطار وطني واضح ولا تنوع سياسي أو قيادي لكي تفرض نفسها
بقوة السلاح على المركز الحضري الذي يفترض إن يسكنه المجتمع الأكثر ارتباطاً
بعملية تحديث الدولة اليمنية وطابعها الوطني. شيء مشابه قام به الإخوان في مصر
عندما تحركوا بعد الانقلاب العسكري، كثافة جماهيرية بدون تنوع وتحت إمرة شخص واحد،
وقابل القاهريون هذه الجماهير بذات السخرية والإستعلاء على ريفيتها.
لا ينبغي إدانة الحوثي من منطلق إن الجماهير التي
تتبعه مشعثة مغبرة لا تفقه شيء لأن هؤلاء ابناء المجتمع اليمني الذي تحمل عبء
الظلم الأكبر من عهد صالح، بينما تواطأت الأحزاب التقليدية في صمتهم على نظام كهذا
لمدة ثلاث عقود، وهي القوى التي كان يفترض أن تتحمل مسؤولية المبادرة للتغيير
والإصلاح. الحوثي مدان لأنه يستغل فاقة هذه الجماهير وجهله بدليل إنه يكافؤها
باستباحة صنعاء وتركها تنهب، أي أن قيادة الحوثي نفسها تتعامل مع هذه الجماهير
باحتقار وعلى أنها غوغاء جاءت للنهب كما كان يرى صالح الشعب اليمني كهمج لا يفقهون
شيئاً. هكذا قيادة تستغل الغرائز والمخاوف مثل الحرب على الإرهاب أو الدواعش،
استثارة نعرات قبلية ومناطقية لكنها لا تقدم مشروعا وطنيا فهذا مخالف لنظرتهم لهذه
الجماهير التي لا ينتظرون منها خيراً.
التحرك الذي جاء من خارج صنعاء الأيام الماضية كان
يحمل معه تحيزات تاريخية ودينية وقبلية مرهقة للمجتمع اليمني وتهدد أكبر حواضر
اليمن بعملية ترييف واسعة تفوق تلك المظاهر القبلية والعسكرية التي كانت تعاني
منها صنعاء وتقلل من فاعليتها كمدينة كبيرة، تستطيع رفع المناطق الريفية والقبلية
التي تحيطها والسكان القادمين لها من كل اتجاه بما فيها الريف لنقلهم لحالة سكان
الحضر بكل ماتعنيه كلمة حضرمن مفاهيم وقيم يحتاجها اليمن ودولته التي لازالت تتعثر
في طريق التحديث الطويلة الذي ينتظرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق