المشيخة!!..
سامي نعمان
لا يستقيم الحديث عن دولة مدنية في ظل بقاء نتوءات داخلية تجتزئ هيبة الدولة باحتكار أو مشاركة جزء من مهام مؤسساتها..
ولا معنى لثورة غيرت نظاماً حاكماً بمعناه المرتبط بإدارة الدولة، وتمددت لتطال مفاصل المؤسسات التي أصبحت بمثابة إقطاعيات خاصة، وتقف متململة إذا تعلق الأمر بأهم العوائق التي تحد من حضور الدولة بشكلها الأدنى، وما يترتب على ذلك من تغييب لأهم القيم الاجتماعية والإنسانية والمدنية.
المقصود هنا ثورة من نوع آخر على مراكز قوى ونفوذ اجتماعية عززت حضورها ومكانتها كجزء من سياسة ممنهجة كلية تهدف في مجملها لتعزيز الوفاء لشخص المركز، على حساب مؤسسات الدولة، وتستهدف في جزئيتها هذه تدجين المجتمع المدني، حتى في المحافظات التي كانت تتمتع بأساس مدني لا بأس به كان متمدداً حتى الأرياف كما تعز والحديدة ولحج وحضرموت وغيرها، ليستبدل بنموذج مسخ أصبح فيه بعض المشايخ قضاة ومدراء أمن ومجالس محلية ومدراء مستشفيات ومدارس في آن، وإن لم يكونوا هم، فمن يختارون لتولي بعض تلك المهام..
أتذكر رجلاً طاعناً في السن، لا يجيد القراءة والكتابة، في احد أرياف ماويه كان يقصد “الناحية” (إدارة المديرية) ماشياً على قدميه، كلما دخل في إشكال يستعصي التفاهم حوله مع غريم له، منتصف التسعينيات.. يحاول البعض، اقناعه باللجوء إلى الشيخ لحل المشكلة، فيرد عليهم “أنا على دولة لي أو عليّ قلك شيخ”، رغم أنه لم يكن في كل الاحوال متيقناً من كسب الشكوى لصالحه.. وهذا يشير إلى وجود أرضية ملائمة لدى المواطنين البسطاء لتقبل حضور الدولة رغم عدم يقينهم من إيجابية حضورها وعدالتها وكونها في الغالب شيخاً بقناع رسمي..
اليوم تنسحب القضايا من مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية لتعود إلى المشايخ ، ليس لأن الشيخ قادر على حل القضية برضى الطرفين أو قناعتهم، بل لأن ممثلي الدولة ذاتها أصبحوا لا يجرؤون على منازعته سلطته على رعيته، وهو المدعوم من “شيوخ” السلطة المركزية العليا، لأنه تدخل في الشأن الداخلي لمنطقة الشيخ الذي يتولى الفصل في القضايا بحكم نهائي قد يكون عادلاً أو جائراً، المهم أن لا أحد في الغالب يجرؤ على نقضه او رفضه، فالسجن ينتظر وإثارة كل الأوراق ضده واردة، وفوق كل ذلك يدفع المتخاصمون غرامة فوق طاقتهم للشيخ، أو ما يسمى “أدب”، يقول بعض المشايخ إنه ضروري حتى لا تتكرر المشاكل وليس لأنهم بحاجة له!
كانت مدينة الراهدة من أرقى نماذج المجتمعات المدنية في اليمن على الاطلاق، وتخلق فيها مجتمع مدني متعايش تجاوز حدود التمييز العنصري على أساس العرق واللون والمهنة المنتشر في معظم ارجاء اليمن، لكن يداً عبثية طالت كثيراً من تلك القيم المدنية الراقية لتتحول الراهدة الى جغرافيا صراع مشيخي فاحش أفسد كثيراً المظاهر الجميلة في حياة الناس.. وتم تفريخ شيوخ، ونجل الشيخ أصبح شيخاً، حتى أن مدير المدرسة أو مديرتها، لا يكون إلا من يرضى عنه هذا الشيخ أو ذاك.. لا بل حتى الأستاذ والحارس والفراش وعامل النظافة..
لقد أصبحت “المشيخة”، أقرب الطرق للوصول إلى مناصب الدولة، وعضوية مصلحة شؤون القبائل، رصيد كافٍ لأي طامح للوصول إلى المناصب العليا في السلطة، فصار الشيخ وزيراً ووكيلاً لوزارة، لمحافظة، مديراً لمديرية، وهو الأكثر حظاً وأهلية عند بعض الأحزاب لتمثيل رعيته في مجلس النواب، من حملة الشهادات العليا، ولكم أن تقرؤوا تركيبة طويل العمر مجلس النواب الحالي، لتقرؤوا خارطة حملة مؤهلات البكالوريوس فما فوق، وكم هم حملة مؤهل “شيخ”.
وإذا كان إسقاط النظام الإقطاعي الفاسد قد استغرق من اليمنيين كثيراً من الوقت والدماء ورفع تكاليف حياتهم، فإن بناء النظام مهمة ليست بالهينة، وربما تحتاج البلاد أضعاف وقت الاسقاط لتتلمس ثمار البناء، إذ يحتاج ذلك لعمل جمعي شامل، بعيداً عن الأنا والتخاذل، وهذا قطعاً لا تستطيع فرضه الحكومة بأجهزتها لوحدها، خصوصاً فيما يتعلق بمراكز قوى اجتماعية تمثل دويلات داخل الدولة، وهذا ما لا ينبغي لأحد أن يقبل به، حتى لا نعود لذات المربع الاول..
ليس المقصود هناك تكرار ثورة إسقاط النظام أو ثورات المؤسسات ضد المشايخ، الأمر أبسط من ذلك بكثير.. ليبق المشايخ كوجاهات اجتماعية تساعد في حل مشاكل الناس برضاهم وقناعتهم، لكن دون إكراه أو إجبار، دون أن تنال من النظام والقانون والدولة، ودون أن تسلب خيارات الناس وقناعاتهم وحرياتهم وحقوقهم في العدالة القضائية، وإلا فالرفض خيار الناس في ظل وجود منظمة قضائية وقانونية متكاملة تصون حقوق الناس وتحفظ كرامتهم..
لا يمكن لدولة مدنية أن تتخلق بشكل يقترب من المثالية ونحن نسلم ببقاء مراكز قوى مؤثرة على حقوق وحريات الناس وتتحكم حتى في مصادر أرزاقهم.. قيم الدولة المدنية في حدها الأدنى تتنافى مع بقاء دويلات داخل الدولة، وتتعارض مع سلطة مصلحة شؤون القبائل بشكلها القائم، وصلاحيات منتسبيها المطلقة.. لن تكون هناك مواطنة متساوية إذا ظلت سلطة المشايخ تنازع الدولة على هيبتها، وظل كثير من المواطنين يعيشون بعد الثورة كرعايا..
saminsw@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق