يتحدث البعض عن عبدالملك الحوثي باعتباره سيد الكهف الذي يهدد
حياة ساكني ناطحات السحاب التي لا تنقطع عنها الكهرباء ولا يتساءل سكانها عن قيمة وايت
الماء. الحديث عن الحوثي وكأنه مشكلة خارجية قادمة من إيران أو مشكلة ساكن الكهف الذي
يهدد حياة ابناء القرن الحادي والعشرين ليس إلا مغالطة لناس لم يخطئوا فهم الحوثي بقدر
ما اخطأوا فهم أنفسهم.
إذا
كانت أبرز اسباب ثورة سبتمبر ضد الإمامة هو رغبة اليمنيون في الخروج عن طوق العزلة
واللحاق بالعصر الحديث، فماذا انجز اليمنيون حتى الآن بهذا المجال؟ لايزال الفارق الزمني
والحضاري بين اليمنيين وبقية العالم واسعاً مع فارق إن امكانية العزلة لم تعد واردة
بالشكل الذي كانت عليه في السابق، لكن لايزال اليمن بلداً مجهولاً ومعزولاً قياساً
بالتطور التكنولوجي الهائل في الإعلام ووسائل الاتصالات والمعلومات وليس قياساً بما
كانت عليه في خمسينات القرن الماضي. هذا ليس تقليل من شأن ثورة سبتمبر ومنجزاتها لكن
العجز عن التقدم للإمام لا يعني سوى العودة للخلف.
من يتحدثون عن سيد الكهف ينسون حقيقة إن الكهوف والخيام هي الملجأ
الطبيعي لليمنيين في حال غياب الدولة، فمن يجرؤ الحديث عن دولة تحيط عاصمتها اعتصامات
مسلحة؟ العودة لنزعاتنا البدائية ولهوياتنا التي وُلدنا بها ولم نخترها هي النتيجة
الطبيعية الوحيدة لحالة غياب الدولة التي نعيشها حالياً. يمكن استنتاج هذا بسهولة عندما
نرى طبيعة الانقسامات التي يشهدها المجتمع اليمني مؤخراً حيث تختلف كلياً عن انقسام
عام 2011م وهو انقسام سياسي، بينما الآن نشهد انقسام على الهوية، طائفي، سلالي، بل
وثأري مستمد من ثأرات البعض من عهد الإمامة وأخرى العكس من عهد الثورة السبتمبرية.
رغم حقيقة تهاوي الدولة اليمنية والمصير الكهفي الذين ينتظر مواطني
هذه الدولة، تظل المقاومة الشعبية لهذا الوضع قوية لكن لا يستثمرها أحد بما فيها الدولة
في مواجهة الحوثي؛ وهذا يفسر سر غياب أي التفاف شعبي حول الحوثي. تصور الحوثي إن جاذبية
لافتات رفع الجرعة السعرية كفيلة بحشد شعبي هائل حوله خاصة إن كل مرة ترفع فيها هذه
الجرعة يشهد الشارع احتجاجات واسعة، وكذلك الغضب الشعبي القريب من الاجماع حول رداءة
اداء الحكومة وفسادها أيضاً يدعم مطالبه، لكن هذا كله لم يوسع من دائرة احتجاجاته خارج
منطقة معينة من اليمن مما اسبغ احتجاجاته طابع فئوي.
يحاول الحوثي محاكاة الوضع عام 2011م متبنياً ذات الخطاب والشعارات
لكن هذه المرة يبدو التضليل واضح، فالشارع في 2011م كان ضمن حالة غضب ثوري إقليمي ومحلي
لكنه اليوم ميال لفكرة الاستقرار وليس الثورة بعد خيبته الكبيرة التي تلقاها من عام
2011م. ليس هذا فقط بل إن طبيعة الحوثي الطائفية- السلالية الصريحة جعلت من المستحيل
ضم الآخرين له، كما يختلف وضعه عن حزب الإصلاح الذي ركب الموجة الثورية وهيمن عليها
لكنه لم يدعو لها منذ البداية كما كانت الساحة التي تعبر عن مختلف اطياف اليمنيين تقاوم
كثيراً اساليب الإصلاح المهيمنة بعكس الحوثي المنفرد بالحدث من أوله لآخره.
خلف ذات الشعارات الثورية يفعل الحوثي ذات ما حدث عام 2011م مثل
الدعوة لانشقاق الجيش والتجهيز لصراعات عسكرية محدودة داخل العاصمة، لكن هذه المرة
بدون غطاء ثوري شعبي مما يجعل منه أمر شديد الفجاجة. التغييرات الثورية عادة ما تجهز
على الدولة وليس فقط السلطة لكن لم يكن مقصد الإصلاح عام 2011م هو انجاز التغيير الثوري
بقدر ما كان الأمر يتعلق بالعقلية المستهترة في التعامل مع الدولة وخاصة مؤسستها العسكرية.
شيء مشابه يفعله الحوثي لكن باستهتار اكبر وبالطبع الحديث عن تغيير ثوري ليس إلا مزحة
ثقيلة الظل، فالحوثي حريص على جمع صور بطاقات موظفي المؤسستين الأمنية والعسكرية في
إعتصامهم المجاور لوزارة الداخلية، هذا يعني إن الحوثي لا يبحث عن وزارات يعرف جيداً
إنها موضع دائم للنقد وبلا نفوذ حقيقي كما يعني الحضور داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية
التي يتسابق الإصلاح والرئيس السابق صالح على تعزيز حضورهما فيهما ويسعى الرئيس عبدربه
منصور لخلق شبكة ولاء خاصة به، وها هو الحوثي يبحث له عن موضع قدم حقيقية داخل الدولة
اليمنية المتهاوية بالفعل.
يسعي
الحوثي لتكرار تجربة حزب الله في لبنان من خلال ليس فقط المشاركة في الحكومة بل التأُثير
في الدولة حد تعطيلها لو خالفت إرادته وهذا لن يتحقق إلا من خلال حضور حقيقي في الحكومة
وهو ما كان يسميه حزب الله "الثلث المعطل"، بينما الحوثي يدرك إن الحالة
اليمنية تختلف وهذا لن يتحقق إلا من خلال نصيب مؤثر داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية.
المهمة الأخرى التي لن يرضي الحوثي بأقل منها هو الاعتراف به كوكيل محلي لإيران التي
يفترض الاعتراف بدورها داخل اليمن مثل السعودية، وعدم تجاهل مصالحها في أية ترتيبات
سياسية يخططها المجتمع الدولي للدولة اليمنية.
هذا
المسار الذي يسير به الحوثي لن ينتهي باليمن للسيناريو اللبناني بل للسيناريو اليمني،
السيناريو اللبناني هو المحاصصة ضمن اللا دولة واللا حرب لكن لبنان وهي دولة ذات طبيعة
وظيفية وليست تاريخية، تأسست بدايات القرن العشرين لأسباب تتعلق بترتيبات استعمارية
جديدة للمنطقة تتمحور حول تأسيس دولة اسرائيل يمنع من تكرار السيناريو باليمن. إذن
طبيعة تكوين الدولة اللبنانية الذي فرضه موقعها لا تعارض هكذا حالة، خاصة مع صغر حجم
البلد ومواردها الاقتصادية الهائلة من الخدمات الإعلامية والمالية وغيرها الذي تقدمه
الدولة اللبنانية لدول الجوار حسب ما اقتضى الموقع الحيوي. السيناريو اليمني لدولة
اليمن التاريخية والتي عجزت عن بناء دولتها الحديثة والمعاصرة، وبمواردها الفقيرة جداً
وموقعها الهامشي؛ يعني إن المحاصصة الحزبية سوف تؤدي لفشل الدولة والانحدار من هذه
المحاصصة الحزبية لمستوى أقل واكثر بدائية وهي المحاصصة على أسس مناطقية وطائفية سوف
يدفع لتفكك الدولة وليس مجرد فشلها.
الحوثي سيد الكهف الذي أيقظ اليمنيون من سباتهم الطويل في كهفهم
ليكتشفوا إن كل شيء حولهم مختلف وغريب عنهم لأنهم غرباء عن هذا الزمن، هو حالة تجلي
لغياب مفهوم الدولة عن أذهان اليمنيين لمدة تزيد عن ثلاث عقود والتي لم تتواجد طيلتها
سوى بسبب احتياج البشر الطبيعي لها لكنها تهاوت حتى صارت غير قادرة على تلبية ابسط
الاحتياجات، الحوثي هو ماضينا الذي يطاردنا لأننا عجزنا بعد عقود طويلة من فتح الثورة
السبتمبرية عن إدارة عملية تنمية حقيقية تربطنا بالزمن الذي نعيشه وبالعالم الذي يحيط
بنا وبالمستقبل الذي ينتظرنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق