خالد عبدالهادي |
بينما يصعد اليمين المتطرف في بلدان أوروبا بأصوات الناخبين ورسوم الكاريكاتور المعادية لرموز الحضارات الأخرى، يصعد يمين أشد تطرفاً في المنطقة العربية بقوة السلاح والأساطير وقهر المجتمعات بعد تمزيقها بوباء الفرز الطائفي.
في اليمن كما باقي دول المنطقة، يتوزع التطرف الذي يفجر الحروب ويمجد الخرافة والوحشية بين نقيضين دينيين ثقافيين، تحمل الجماعة الحوثية راية أحدهما في مواجهة الآخر وبينهما تنحبس أحلام شعب بدولة حديثة.
وما من توقيت عصيب كهذا الذي تشرف فيه آلة الحرب الحوثية على صنعاء متحينة الفرصة لإسدال سلطتها الدينية المعتمة على أكبر تجمع سكاني حضري في البلاد، للإدلاء بما ينبغي قوله.
كان رمز اليمين الفرنسي المتطرف جان ماري لوبان على بعد خطوة من قصر الإليزيه وقلب صورة فرنسا وروحها رأساً على عقب بعدما حاز نحو 17 في المائة من أصوات الناخبين في الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة عام 2002 بفارق قرابة 2 في المائة عن الرئيس جاك شيراك الذي خاض الجولة الثانية في مواجهة زعيم الجبهة الوطنية وسط صدمة الفرنسيين وذهولهم.
ولو أن الفرنسيين فضلوا الوظائف التي سيوفرها لوبان بعد طرد ملايين المهاجرين على قيم الجمهورية الفرنسية لعززوا في الجولة الانتخابية الثانية حظوظ لوبان في الفوز بالرئاسة.
لكن في اليوم التالي لإعلان نتائج الجولة الأولى، خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع باريس وليل وبوردو وليون ومدن أخرى، غالبيتهم شبان يساريون يتظاهرون لمواجهة الخطر الذي تشكله إمكانية وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، ورفعوا لافتات مكتوب عليها "لوبان عار" و"الفاشية لن تنجح" و "لقد انتهيت. الفرنسيون في الشوارع".
وبينما كان الشبان يتظاهرون في باريس قال جاك شيراك جملة استنهضت الناخبين الفرنسيين فاندفعوا في الجولة الثانية من الانتخابات يصوتون لمنع فوز لوبان الذي لم تتجاوز نسبة الأصوات التي أضافها إلى حصيلته من الجولة الأولى سوى أقل من 1 في المائة فيما حصد منافسه الديجولي أكثر من 82 في المائة من أصوات المقترعين.
قال شيراك "روح البلاد مهددة اليوم وفرنسا جريحة وانسجام الجمهورية ووحدتها في خطر". ولقد كان لهذه الجملة الخالدة، فضلاً عن حيوية المجتمع وإيجابية نخبه مفعول هائل في إحباط تطلعات اليمين الفاشي لحكم البلاد التي ألهمت ثورتها أنحاء الدنيا إلى كثير من القيم الحضارية السائدة.
وليت الحوثي زعيم لقوة يمينية مثل سائر القوى اليمينية المتطرفة في العالم، بيد أن ما تقترفه آلة عنفه، إضافة إلى طوق الظلام الذي تلقيه سلطته الدينية حول الإنسان كافيان لأن يبدو أغلظ متطرف يميني في أوروبا ملاكاً بالمقارنة معه.
فسياسي مثل لوبان المتخرج في واحدة من أعرق الجامعات الفرنسية والملتزم بعرض برامجه الانتخابية على الناخبين بسلمية كاملة، لا يتردد اليساريون الفرنسيون عن وصمه بالعار والفاشية، مستأنسين بتاريخ طويل من مجابهة اليسار للمذاهب الانعزالية والعنصرية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى.
حتى مع صعود اليمين المتطرف بموجاته الحديثة، تشكل أحزاب اليسار ومنظماته في أوروبا قوة أساسية ومتقدمة في مواجهته، لتغدو هذه المهمة وظيفة جديدة من وظائف اليسار هناك.
وفي هذا المثال، رد على متعالمين أخذوا يصوغون وصفة جديدة لما ينبغي أن يكون عليه تقييم اليساريين والليبراليين لفكرة الجماعة الحوثية وأفعالها، بل زادوا أن رموا من ينتقدون هذه الجماعة بالطائفية في قلب فاضح لاتجاه العلاقة المفترضة بين نقيضين قيميين لا يتلاقيان.
عند هذه "النقطة الحرجة" يتبين الخيط الرفيع الذي يفصل بين الانفتاح والتسامح وبين السلبية والتواطؤ اللذين ينتهيان إلى امتهان تبييض سلوكيات حركة تحتل صدارة أعداء الانفتاح والتسامح والحريات العامة.
ينبع الافتراق الصارخ في تقييم "الحوثية" ثم التزام موقف الرضا حيالها من أن تقييم هذه الفكرة وتطبيقاتها الواقعية يأتي محمولاً بأغراض أخرى لا صلة لها بهدف معرفة الحقيقة أو أن التقييم يجري بسطحية ويجزئ الموضوع إلى حوادث مجردة ومعزولة عن بعضها.
وتأسيساً على هذا التقييم المشوش أو الذي يراد تغييمه عمداً، ينظر مثقفون وسياسيون إلى عبدالملك الحوثي وبدلاً من أن تنعكس في مخيلاتهم صورة أمير حرب شغوف بالحروب الدينية التطهيرية وإعادة تعبيد المجتمع لله على طريقته النقية، ترتسم صورة كأنما مستوحاة من شخصية الدالاي لاما: ناسك منشق مسالم يغطي نصف صدره برداء أحمر، ويتلو صلواته ويؤلف الكتب.
لذلك، فالانطلاق من هذا التقييم يمنح أصحابه فسحة أخلاقية للاحتفاء بالحوثيين، بل وتثير الحوثية إعجابهم ومنهم من تثير افتتانه فيرى فيها حالة ثورية بما يطبعها من جموح وإحراز مكاسب بسرعة قياسية واستثارة للوطنية مع مناصبة العداء لكل ما هو أجنبي. ويكفي هذا التصور قصوراً أنه لا يقيم وزناً لفكرة الحركة وأفعالها فيما يفتتن بأعراض مظهرية ترافق أيما حركة صاعدة.
ونظرة بمثل هذا التبسيط إلى الحوثية قادت كثيرين إلى تصنيفها على أنها نتيجة لجولات الحرب التي خاضتها القوات الحكومية مع مقاتلي الجماعة بين 2004 و2010.
الحروب التي خاضتها القوات الحكومية في صعدة مع المسلحين الحوثيين أسهمت في دفع الحوثيين إلى نهج الدموية المفرطة والتحلل تدريجياً من الأصباغ المحلية لحركتهم وصولاً إلى الانزياح شبه الكامل نحو الصبغة الخارجية.
أما صميم فكرة الحوثية وخصائصها الأساسية فهي ذاتها منذ النشأة ولم يلحق بها أي تغييرات حتى يقال إنها نتيجة لجولات الحرب التي دارت في صعدة.
بالطبع، للحرب مع ما رافقها من بطش بالمجتمع المحلي آثار مؤسفة وشديدة القسوة، غير أن محاولة الفصل بين الحوثية ذات العقد والنصف عن جذور تاريخية، أضيف إليها الغلو المصاحب لصعود الهويات دون الوطنية في المنطقة والصراع الإقليمي الذي يتخذ اليمن منصة له هو خداع وتزييف ببساطة.
لا تتركز معضلة سيطرة الحوثيين على قرار الحكم وإدارة المجتمع كما يختزلها كثيرون في أنهم سيحلون الملكية محل الجمهورية بوصفهما مصطلحين يشيران إلى طبيعة نظام الحكم، فالحوثيون قادرون على تجاوز هذا الاختبار لأنهم أذكى من التعثر أمامه، إذ يستطيعون المزايدة بالجمهورية مثل كثيرين من خصومهم الذين قوضوا جمهورية سبتمبر.
الإشكال يتجاوز طبيعة نظام الحكم إلى قيم المجتمع وحرياته وصولاً إلى البطش بكرامة الأفراد الشخصية. فالمثال العملي الذي يقدمه حكم الحوثيين في صعدة والمناطق المتصلة بها يتجاوز خطره الحريات السياسية إلى الحريات الشخصية الطبيعية.
وإذ يقدم عبدالملك الحوثي نفسه عبر سلسلة من الخطابات الأخيرة مدافعاً عن خبز اليمنيين، يغمط المنجذبون لهذه الترنيمة حقيقة أن الخبر كالكرامة والحريات العامة، حقوق متساوية يستحيل مقايضة أحدها بآخر، بل إن الأفراد يكابدون شظف العيش لكن لا أفدح خسارةً من سلب الكرامة والحريات الطبيعية العامة .
والحوثيون لا يريدون أن يحكموا في التوقيت الراهن بما يعنيه الحكم من مسؤولية وخدمة وتكليف بل يريدون أن يتحكموا في القرار الحاكم ويوجهوه حيث يشاءون. بعبارة أخرى تريد الجماعة أن تشكل غلافاً للسلطة: تحيط بكبير شأنها ودقيقه وتسخرها لتطبيق تصوراتها الشاملة بدءاً من علاقة المرء بالسماء حتى أدق خصوصياته.
على أن الإشارة هنا إلى الخبز والحرية هي من باب المجاراة فحسب، بصرف النظر عن الموقف من قرار تحرير أسعار المحروقات وما إذا كان التصوير الأخير للحوثي كثائر قادم لاستنقاذ خبز الجياع من أفواه الفاسدين المتخمين حقيقياً وصادقا.
هذه الجزئية المتصلة بخفض دعم المحروقات تقتضي الانتقال إلى مشارف العاصمة صنعاء، حيث يجري عرض وقح لقوة غير شرعية تهدد مدينة يقطنها زهاء مليوني شخص، وفي مقدور المدفعية الحوثية الملقًمة بالقذائف منح كل واحد منهم بطاقة نازح في أي لحظة.
لتحليل ما يحدث في محيط صنعاء، ينبغي عدم عزل عنصر القبيلة عن الحدث المحوري كي لا نفقد لاعباً مهماً وحاسماً في الصراع المشبوب.
منذ رحيل عبدالله بن حسين الأحمر زعيم قبائل حاشد عام 2007، دخلت القبيلة بوصفها أقوى قوة ضغط في مرحلة تيه وبدأت تفقد سمات أساسية في زعمائها الذين انصرفوا عن إصلاح شؤونها وحماية مصالح أفرادها إلى العناية بمصالحهم الخاصة.
وزاد العقد القبلي انفراطاً في 2011 خلال الثورة الشعبية التي أرغمت الرئيس السابق علي عبدالله صالح على التنحي.
ترى القبيلة أنها مصدر البأس الذي يحمي السلطة في صنعاء منذ ميلاد جمهورية سبتمبر 1962مقابل إقرار السلطة بهذا "الفضل" وتقديره حق قدره.
ومع أن القبيلة ذاتها انشقت في 2011 كما لم تنقسم من قبل خلال تاريخها المعاصر إلا أن انتزاع الحكم من علي صالح الذي لطالما فاخر بالقبيلة ولوح بقوتها لحماية حكمه، والمحسوب عليها ابتداء لا بد أنه أشعرها بأن الميزان قد اختل لمصلحة السلطة.
بعبارة أخرى، صار للقبيلة في وعي رجالاتها ما يشبه الاعتقاد بالحق في شراكة السلطة.
يتعاضد الآن أصحاب دعويين أو حقين مزعومين: حق حديث يزعمه قسم من القبيلة بإيحاء من الرئيس السابق وحق قديم يزعمه الحوثيون، وما يحدث في محيط صنعاء وتخومها هو ترجمة لائتلاف أصحاب هذين الزعمين بالحق في السلطة.
وجد عبدالملك الحوثي في خلو الساحة القبلية من الزعامات القوية المتمسكة بسمات شيخ القبيلة النمطي ضالته، ولمًا رنا إلى صنعاء ضرب على وتر حساس لدى القبيلة المتطلعة إلى إعادة الهيبة لمكانتها المهملة، وهذا وحده كاف لترغيب رجالاتها في دعم الحوثي مثلما يتبدى المشهد في محيط العاصمة حيث تتقاطر القوافل اليومية مشتملة على مئات المركبات المحملة بالرجال والغذاء والماء.
على هذا النحو، في الإمكان القول إن الحوثي يستعير صفحة من سيرة الإمام يحيى بن الحسين الهادي الذي وفد قبل 12 قرناً على قبائل متنازعة متخاصمة، تبحث عن رجل قوي يوحد قرارها ويضع حداً لشتاتها، فوحدها الهادي بحد السيف وخرافة الاصطفاء الذي رأت فيه القبائل المتناحرة بوعي تلك الحقبة منحة ساقها القدر لإصلاح الشأن فدانت له.
إذن، الحوثي يمتشق سيف الهادي بأشكاله الحديثة وتجري بين يديه أموال أوفر مما حاز الأول، وقد ضعضعت حروبه قسماً من القبائل المناوئة له فيما القسم الآخر يشاطره غايته ويغض النظر عن المآلات النهائية.
لمعرفة سر الانسياق القبلي خلف الحوثي، ينبغي البحث عن أصابع علي عبدالله صالح في الورطة الراهنة بوصفه ماكينة مكر وطالب ثأر، ويسهل العثور على أثر الرجل في القسم القبلي الذي يغدق الدعم على المعسكرات المطوقة للعاصمة ويشكل الاحتياطي القتالي للحوثي. وسيكون من الصعب إقناع مسلحي القبائل بالتراجع، ولنا أن نتصور مقدار الرشى التي سيتعين دفعها لهؤلاء كي يعودوا أدراجهم في وقت تلوح أمامهم غنيمة ضخمة.
علاوة على وفود القبائل التي تفد على صالح على نحو شبه يومي منذ اندلاع الأزمة السياسية الراهنة وتثمر ذلك المد القبلي المتدفق تباعاً على معسكرات الحوثيين، ينبغي استقراء الإعلام الصادر عن الرئيس السابق ومقارنته بمضمون الإعلام الحوثي لمعرفة كم أنهما يتشابهان في تغطية ما يحدث، أو رصد تصريحات رجال صالح الذين يشغلون مواقع قيادية في المؤتمر الشعبي بشأن الأحداث.
لكل ذلك، كم من الأصوات ينبغي أن تصدح بأن اليمن جريحة.
اليمن جريحة.. وجرحها عميق يتوزع بين فاشية جموحة تنظر إلى الروزنامة، متعجلة موعد "التمكين" لتعيد صوغ هذه البلاد وتفتش أدمغة مواطنيها، وسلطة عرجاء ضعيفة، تقف على رأسها نخبة حاكمة خائرة، تفتقر إلى الحنكة والإلهام ولا تنتمي لطينة جاك شيراك حتى تقول لمواطنيها إن وطنهم جريح وقيمه الأساسية مهددة.
============المصدر: موقع المصدر أونلاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق