تتعفن ميادين المنطقة وتتصومل تحت ضربات داعش والقاعدة
وأنصار الشريعة. تتصاعد قوة تلك الجماعات على نحو يصبح مستحيلا أن يكون الصعود
مستقلا عن دول وأنظمة وأجندات.
يخشى الأخضر الابراهيمي من صومالٍ جديد في سوريا. والصومال هو نموذج ما قد
يمكن التوجس منه في ما يجري في العراق واليمن وليبيا أيضاً. في الصوملة قدر ضمور
سلطة المركز، وخصوبة سلطة الغوغاء. هي نفيٌ للدولة من أجل العبث، هي نفيٌ للحياة
تتيماً بالعدم.
الصوملة في الصومال باتت من عاديات المشهد الدولي. لم تعدْ الظاهرة مستهجنة
مستنكرة، بل أضحت جزءاً من مشهد روتيني يكادُ يغفله العالم. ولولا عمليات القرصنة
التي تنشطُ كنتاجٍ طبيعي للآفة وعفنها، لما اهتز للعالم جفنٌ يكترث بما يحدثُ في
ذلك البلد. والصوملة بمعنى أوضح ليست فقط ظاهرة غياب الدولة لحساب اللادولة، بل
أيضا هي ظاهرة عدم اكتراث القوى الكبرى بمصير تلك البقع فتصبح مُصوملة.
في ذلك التفسيرُ يكمن رابط بين الأوبامية (نسبة للرئيس أوباما) والصوملة. فالثابت
عند الرئيس الأميركي التعامل مع الأزمات بحدِّها الأدنى وعدم التدخل لحلّها والسعي
إلى اتقاء شراراتها.
تستقيلُ الولايات المتحدة وفق الأوبامية من وظيفتها كدولة كبرى، تفرضُ
عليها هذه المكانة تقريرَ أمور العالم وليس النأي عنها والتنصل من جلبتها. وهنا قد
يجوزُ الإفتاء أن التصومل في الحالات التي تنتشرُ في منطقتنا منذ “ربيعها”، هو
نتاجٌ آلي للأوبامية بما هي إمعان في الحياد والتردد والتحفظ والانعزال.
ترفدُ واشنطن سعي صنعاء الراهن للتخلص من القاعدة والجهادية في اليمن. لكن
الدعمَ الأميركي يتقدمُ وكأنه عون يخصّ اليمن، وليس جزءاً أساسيا من استراتيجية
الولايات المتحدة للحفاظ على أمنها وأمن العالم. سبق أن تعاملت واشنطن مع الأمر في
هذا البلد من خلال الغارات التي تقوم بها طائرات بدون طيار.
ولئن سببت هذه الغارات مآس لدى المدنيين وأثمرت ارتفاع شعبية التنظيمات
الجهادية في اليمن، فإن واشنطن لم تكن لتأبه بتلك التفاصيل رغم المخاطرة بصوملة
البلد وتقويض دولته وإضعاف استقلاله ورصيده السيادي. وتأتي علاقة الولايات المتحدة
مع الشأن العراقي برهاناً على منطق يترك المكان بنيرانه وألغامه بغض النظر عما
ستؤول إليه حال العراق والعراقيين. تنسحب واشنطن من الورطة العراقية كما تفعل في
أفغانستان، دون خطة انسحاب بناءة. يبدو العراق الذي انشدّت إليه الجيوش الأميركية
مكاناً يهجره المجتمع الدولي بعد أن قفزت واشنطن من سفينته وتركته يغرق في وحوله.
بدا أن ما سبق يفسّر ما تحققه داعش في العراق هذه الأيام. في سلوك أوباما
كما في سلوك بوش الابن بالمناسبة، صبيانية متسرّعة لا تليق بالحصافة التي يجب أن
تتحلى بها الدولة الأكبر في العالم. وفق ذلك الأداء تراقب واشنطن عن بُعد ترعرع
الصوملة في العراق ومآلاتها القدرية التي تكاد تكون نهائية (من الحكمة عدم التسرع
في تقييم ما يجري في العراق ومدى داعشية الأمر من عراقيته). ينسحبُ منطق ذلك على
ما تشهده ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي. بدا الغرب حريصا على إسقاط الديكتاتور
غير مبال بالطوفان الذي سينتج عن ذلك (وهذا ما تحدث عنه السيسي مؤخراً). وإذا ما
راجت فكرة الصناعة المحلية للسلطة البديلة، فإن غياب الرعاة الكبار جعل أمور البلد
في يد من يملك القوة الميدانية من ميليشيات وجماعات وعصابات.
تأتي اللحظة الليبية في غياب تاريخي لقوة إقليمية مرجعية تفرض حضورها
وأجندتها، كما تصدف في لحظة الاستقالة الأميركية التي ما فتئ يبشّر بها سيّد البيت
الأبيض في واشنطن (حتى بعد اغتيال سفيره هناك).
ضمن تلك الظروف ووفق هذه الحقائق تعيشُ ليبيا حالة عبث مقيت تتصارعُ داخله
بالسلاح تيارات وقبائل ونواحي ووجهات، وتغيب عنه مرجعية تجمع الليبيين، سواء كانت
تلك المرجعية برلماناً أو حكومة أو جيشاً أو زعيما.
ولم يعدْ مفيداً التذكير بما ارتكبته الأوبامية ومسؤوليتها في الصوملة
السورية التي يحذّر منها الأخضر الإبراهيمي. فَقَدَ العالم بوصلته وأمعن في سياق
ارتجالي خطير. كان الحسمُ أساسيا في ترتيب ملف يوغسلافيا ميلوسوفيتش وأفغانستان
مولانا عمر وعراق صدام وليبيا القذافي. وكان الحسم ضروريا في تأييد انتفاضة الناس
ضد النظام السوفيتي والنظم الدائرة في فلكه في أوروبا الشرقية.
وحين انهارت الامبراطورية السوفينية، جاءت حكمة الكبار حريصة على لملمة
الأمور ومنع عبثيتها وضمها إلى حضن الديمقراطية الكبرى سالمة شبه معافاة. هذا ما
لم يحصل مع بلدان المنطقة وكأن المقصود كان إبعادها عن النادي الدولي الحداثي،
وتركها خارج حدود منطق العصر الراهن.
تفيضُ الصوملة عن حدودها وتذهبُ للتمدد والتسلل إلى قلب العالم الغربي. يجتمعُ
الأوروبيون بقلق لتنسيق جهود تاريخية للتصدي لخطر الجهاديين العائدين من سوريا،
فيما تستنفر أجهزة الأمن في العالم للتعامل مع خطر الجهاديين في ليبيا بامتداداته
الأفريقية والأوروبية. يحركُ البنتاغون قواته للاقتراب من الأراضي الليبية، فيما
تحشدُ الجزائر قواتها على الحدود مع ليبيا، ويتوقّع اللواء خليفة حفتر تدخلاً
عسكريا مصرياً داخل أراضي بلاده.
بسرعة صاعقة تتعفن ميادين المنطقة وتتصومل تحت ضربات داعش والقاعدة وأنصـار
الشريعـة وبقيـة الجماعـات الجهاديـة.
تتصاعدُ قوة تلك الجماعات بشكل لافت بالعتاد والعدّة والإمكانات على نحو
يصبح مستحيلاً أن يكون هذا الصعود مستقلاً عن دول وأنظمة وأجندات. يكفي تأمل ما
تحققه داعش في سوريا والعراق، كما القاعدة في اليمن والجهاديون في ليبيا، لاستنتاج
تطابق أو تنافر حراكها مع أجندات داخلية وخارجية بغض النظر عن أهدافها المعلنة
لإقامة حكم الشرع. بمعنى آخر فإن الفوضى الحاصلة لم تعد تهددُ الدولة- الأمة فقط،
بل باتت تهددُ منظومة العلاقات الدولية وتوسع من رقعة العبث وتنزع الحدود ما بين
شمال وجنوب، ما بين حداثي وماضوي، ما بين أرض الحرب وأرض السلام.
منطقياً، لن يسمحَ العالم باستمرار عجزه عن السيطرة على إدارة مصائر الأمم.
وما نعنيه بالعالم يبدأ بذلك الغربي لكنه ينسحب على روسيا والصين أيضاً.
لم تعد الجهادية سلاحا يستخدمه الغرب ضد خصومه (منذ ما قبل التجربة
الأفغانية ضد السوفيات)، بل بات ذا حدّين يقلقُ موسكو وبكين كما يقلق واشنطن ولندن
وباريس وبرلين إلخ. على ذلك سيكون مطلوباً من هذا العالم التحرك بشكل عاجل وفعّال
وميداني لضبط مسارات الأمور في سوريا واليمن والعراق وليبيا. وعلى ذلك سيكون
طبيعيا تحوّل المواقف الدولية لصالح تطبيع معيّن مع النظام الإقليمي المتشكل
بُعَيْدَ «الربيع» (راقب الموقف الغربي المتحوّل في مصر بعد انتخاب السيسي)
لن نخاطر في استشراف شكل التحرك الدولي وشكل التكامل المحتمل بين الدائرتين
الدولية والإقليمية (لاحظ تحوّل موقف واشنطن من التطورات الأخيرة في العراق). لكن
تعاون تركيا لمراقبة جهاديي أوروبا في سوريا والتبرؤ من جماعات هناك واعتبارها
إرهابية، كما تعاون أجهزة الأمن المغاربية لمواجهة الحدث الليبي، كما الحديث عن
تحرك مصري عسكري حتمي في ليبيا، كما تبرع إيران بمكافحة الجماعات، كما تطوّر
التشريعات السعودية ضد الجهاديين.. إلخ، هي عوامل مؤشّرة للجهد المحلي والإقليمي
والدولي الشامل لاجتثاث آفة الإرهاب.
بمعنى آخر سيكون على العالم الانخراط في ورشات تجري في كافة المناطق
الساخنة ليس فقط بالمستوى التقني العسكري والأمني، بل بمستويات سياسية عليا تتجهدُ
لفرض حلول وصيغ تنهي المآزق الليبية والسورية والعراقية واليمنية.
الصوملة في سوريا كما يراها الأخضر الإبراهيمي تأتي معطوفة على أنباء تنذرُ
بها تقارير أميركية تتحدث عن أن الحرب في سوريا ما زالت في أولها. لكن الصورة
السوداوية التي يعلن عنها هذه الأيام والتي تعكس قلقاً حقيقيا داخل دوائر القرار
في العالم، قد تكون مبرراً لتحركات لافتة قد لا تتسق مع الأوبامية ولا تتفق مع
تقاليدها.
تتقدم الصوملة في العالم بدأب لا يكل لتواجه العولمة التي بشّرنا بها
العالم الحديث. تتعولم تلك الصوملة وتصبحُ ظاهرة خارقة للحدود تتغذى من ثورة
المعلومات وتنتشر داخل شبكاتها. وفيما تتعددُ القضايا في العالم العربي وتغيب قضية
مركزية حقيقية جامعة، وفيما العراقيون مهتمون بالعراق والمصريون بمصر والسوريون
بسوريا.. إلخ، ينفردُ الجهاديون بقضية واحدة ووسائل واحدة وشعارات واحدة سواء
تحركوا في أنبار العراق أو في رقة سوريا أو في بنغازي ليبيا أو في شبوة اليمن. هو
زمن الصدام بين الراهن والماضي، بين الواقعية والأيديولوجية، بين شروط العقل ونزق
اللاعقل.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق