هذا المقال نشرته في جريدة الجمهورية نهاية سبتمبر/أيلول 2012 عن جماعة
الحوثي.. تحريت فيه اقصى درجات التجرد، ومع ذلك كنت اظن فيه بعض التحامل..
اليوم
وبعد التطورات الأخيرة وجدت كم كنت متعقلاً حينها في نقد الجماعة المسلحة، ومداراتها لجلبها إلى ميدان السياسة، لكن المقامرات مستمرة، وغرور القوة يطغى على العقل..
=============
برنامج الصرخة!
سامي نعمان
السبت 29 سبتمبر-أيلول 2012
=============
أكثر ما يحتاجه الحوثيون في اللحظة الراهنة، هو برنامج
سياسي متقدم ينسجم مع مناداتهم بالدولة المدنية الحديثة في اطار مشروع وطني متخفف
من العقد والايديولوجيات، بما يمكنهم من تجاوز عقده وبيئة الظروف التي اوجدتهم
كحركة مسلحة -مهما تباينت الرؤى تجاهها- وكسبت في ظلها كثيراً من الانصار
والمتعاطفين..
هم صرحوا أن الفرصة مواتية لتأسيس حزب سياسي؛ ولما يحن
وقت إعلانه، إذ تبقى الفكرة الخلاقة أسيرة الحسابات المعقدة والايديولوجيا الضيقة،
وبقدر يضعف قيمتها وأهميتها أمام استمرار حضور صوت السلاح، واستسهال خوض المعارك
وإراقة الدماء لأسباب تافهة..
بإمكان الحوثيين التقدم خطوة جريئة -سبقهم اليها جناح من
السلفيين رغم انهم كانوا أكثر تخلفاً في رؤيتهم للانتخابات- تضعف احتمالات الحرب
المتفاقمة عندهم وربما عند غيرهم، وستضع الميليشيات الأخرى التي تواجههم في مأزق
حقيقي، وتكسبهم مزيداً من الأنصار والمتعاطفين؛ ان يعلنوا رسمياً تخليهم عن السلاح
والانخراط في العمل السياسي بطول اليمن وعرضها، ببرنامج سياسي مدني متقدم، يحفظ
خصوصياتهم، بما فيها «الصرخة المقدسة»، دون أن تبقى أساساً عديماً لكل أنشطتهم..
أما استمرار تمسكهم بالسلاح فلن يكون رادعاً البتة لأي
احتمالات بنشوب حرب جديدة ضدهم، خصوصاً في ظل الظروف والمتغيرات التي شهدتها
البلاد كواقع ملموس في البلاد،آمنوا بها أم لم يؤمنوا، وأياً كانت تحفظاتنا جميعاً
عليه..
بل على العكس؛ ربما تسهم أخطاؤهم المترتبة على استمرار
حمل السلاح وعشوائية استخدامه، في زيادة حظوظ وفرص الحرب ثراء.. لا ينبغي لهم أن
يصبحوا في خانة واحدة مع تجارها بزيادة رصيد الحجج التي تبرر خوضها سواء كانت حقاً
أم تدليساً -إذ يوجد أساس لبناء وفبركة التهم- وهم الذين طالما كانوا يشكون تجار
الحروب ودورهم في استئنافها..
يسيطر الحوثيون على صعدة بشكل كامل منذ مارس 2011،
تزامناً مع انفراط عقد السلطة الحاكمة بعد مجزرة جمعة الكرامة.. عينوا تاجراً
مصنفاً في القائمة السوداء لتجارة السلاح محافظاً في أسوأ حماقة يرتكبها «المظلومون»
لم يتجرأ عليها صالح نفسه، الذي عين شقيقه عام 2008 محافظاً في مسرحية هزيلة أطلق
عليها انتخابات..
على أية حال بقي محافظهم صورياً ربما اتقاء لشره، وأديرت
صعدة من قبل «أبوعلي الحاكم»، وبقي الأستاذ عبدالملك الحوثي مرجعية للجميع، وهو
الحاضر الوحيد عند التقاء سفراء أو وفود رفيعة، والى جواره فارس مناع أقل حضوراً
من سكرتير أو مرافق..
لا أظن عبدالملك بصدد تأ سيس حزب سياسي، الآن أو
مستقبلاً، ذلك انه بلغ مرحلة بات يرى فيها نفسه اكبر من امناء عموم الاحزاب، ومن
كل المسؤولين ابتداء برئيس الدولة وحتى المحافظ وما دونه.. إنه يرى نفسه فوق
الجميع، يستلهم كاريزما نصر الله في الخطابة، وتجربته في العمل المسلح، ويتجاهل
تجربته السياسية كأمين عام حزب قوي ومؤثر بجناح مسلح.. في هذا الجانب يتطلع لتجربة
المرشد الاعلى للثورة في طهران الذي يعد مرجعية نظام اقل ما يمكن ان يوصف به انه
رجعي ومتخلف للغاية، ومن تحت عباءته يخرج الرؤساء وقرارات السلم والحرب، وما الرئيس
إلا أداة من ادواته الشكلية..
سمعت جزءاً من محاضرة الصرخة للأستاذ عبدالملك، وجزءاً
من مقابلة مع ناطقه محمد عبدالسلام، أعلن فيها عن ظهوره صوتاً وصورة بعد أن ظل محل
شكوك حول شخصيته لسنوات.. الرجلان برزا خلال ظروف الحرب، وهما يمسكان بزمام الحجة
في الدفاع عن موقفهم من الحرب التي فرضت عليهم فرضاً.. اليوم أصبحوا بلا حجة، ولا
منطق، وكل قضايا الوطن والدولة المدنية تؤول إلى الشعار.. كم هو مؤسف أن يقبلوا
ويسلموا بتحجيم فكرهم وقدراتهم وأنشطتهم عند مستوى هذا الشعار الغبي، الذي يستجلب
أعداء من العيار الثقيل ليسوا في معرض النزال إلا عرضاً وتقية..
الصراعات التي يخوضها الحوثيون وخصومهم لا تمت جذورها
بصلة إلى الواقع المعاش، أو بهدف تحقيق الدولة المدنية التي ينشد تأسيسها
المتحاربون أغلبهم، وفقاً لتصريحاتهم المعلنة، بقدر ما تؤكد استغلالها لتأسيس نظام
حكم أكثر تخلفاً من ذلك المنتفض عليه..
كم هو مؤسف أن تراق دماء الناس بالعشرات، في معارك خاطئة
لا أساس لها سوى استجرار الصراع الايديولوجي، بين أبناء الديانة الواحدة، ومعها
الاتهامات المتبادلة بتبعية اجندة المتحاربين لمعسكرات متناقضة خارج حدود البلد لم
تصل تناقضاتهم تلك حد الصراع المسلح وإراقة الدماء التي ارتضت اطرافنا المحلية أن
تجسده كنموذج مصغر وأكثر شمولاً..
جوهر الخلاف بين الحوثيين وحلفائهم من جهة وبين
الاصلاحيين والسلفيين من جهة أخرى ليس سياسياً مطلقاً.. هناك أطراف تعيش في القرن
الأول للهجرة وكأنها تخوض معركة حاسمة لإعادة تشكيل مراكز قوى ما بعد موقعة صفين..واذا
ما نظروا إلى المستقبل اختلفوا على مابعد الموت، إذ يجهدون في إثبات تفسيرات
متعلقة بحقيقة عذاب القبر، أو «الرؤية».. واذا ما عادوا إلى الحاضر أياً كان
استلهموا الاستقطابات الدولية والمواقف من الثورة السورية أو شعارات الموت واللعنة
لتبنى عليها اصطفافات الداخل، الذي تبدو مشاكله أقرب للتفاهم إذا تجردت مختلف
الأطراف من أيديولوجياتها وتبعياتها ومواقفها من الخارج..
كارثة أن يقبل الحوثيون ببقائهم ميليشيا مسلحة رغم
مناداتهم بالدولة المدنية.. كما هي كارثة أيضاً أن يقبل الإصلاح -كحزب سياسي - بوجود
ميليشيات مسلحة محسوبة عليه.. بيد أنه لا مجال للمقارنة بين حزب سياسي بأخطاء
كارثية، وبين جماعة مسلحة بأفكار سياسية لم تتبلور حتى الآن في تركيبة تليق ببعض
أفكارها، إذ تبقى الأفكار المبنية على أساس خاطئ مجرد هراء.. أن يظل الشعار مرجعية
لكل القضايا الوطنية، فقد تفلح في استقطاب بعض الموالين والهتافين بالشعار لبعض
الوقت، لكنهم لن يظلوا كذلك على الدوام.. معيب أن يظل متسيداً حياتنا بكل
تفاصيلها، حاضراً أكثر منا وهويتنا ومشاكلنا وأزماتنا، وهمومنا اليومية.. ومعيب
أكثر أن يقبلوا تحجيم أفكارهم ومشاريعهم بحدوده، حتى إذا ما دعي بعض قياداتهم
بقرار جمهوري للمشاركة في صياغة مستقبل اليمن، فضلوا التقوقع في ظروف البيئة التي
وجدوا فيها، وأوكلوا المهمة لبعض ممثليهم في صنعاء الذين لا يقوى أحدهم على
الموافقة على بند في اللائحة الداخلية المنظمة لعمل لجنة الحوار دون أن يحظى
بموافقة من المركز المتمترس في الجبال النائية..
أتباع الأستاذ عبدالملك الحوثي بحاجة إلى برنامج سياسي
ومشروع وطني طموح يفرغون فيه جهودهم وطاقاتهم الكامنة، بما ينعكس خيراً وأمناً
ورقياً للبلاد، بدلاً من دفنها في قبو الشعار، وتقييدها بهواجس “المؤامرات”، وسلوك
العصابات..
الحوثيون وغيرهم
من الأطراف المختلفة سيكونون أكثر قوة وتأثيراً إذا فكروا قليلاً بمنطق الدولة
والمدنية، « وتخلوا عن فكرة فرض أنفسهم بقوة السلاح»، وبريق الشعارات الفارغة التي
تحيل الكفاءات الى مجرد أدوات هتاف فيما لا يجدي ..
هيبة الدولة يجب أن تتجسد بمسؤولية حقناً لدماء الناس
وحفظاً لمصالحهم، وينبغي على الحوثيين أن ينادوا الدولة بالحضور بمسؤولية والتزام
مع مراعاة خصوصيات بلد انهكته ست جولات من الحروب الهمجية العبثية بلا طائل، إن
كانوا دعاة دولة مدنية حقاً.. وهذا هو الخيار الأنسب للجميع لإيقاف جذوة الحرب
التي تزداد اشتعالاً كل يوم..
ذلك أولى وأجدر بهم جميعاً من طلب الدولة المدنية بمنطق
السلاح والقوة الذي يفتحون من خلاله الباب على مصراعيه أمام الخيارات التي يتهيبون
وقوعها، ولن يكون بمقدور أي منهم أن يكون قائداً ولا مرشداً ولا ناطقاً ولا مرجعية..
سيكونون أقرب إلى مشاريع أمراء الحرب وتجارها على جغرافيا من الخراب، وجثث لا تقدر
على الهتاف أو رفضه ومقاومته..
الدولة المدنية ليست شعارات ومغامرات، بل هي مسؤولية
والتزام وتنازلات لصالح الوطن.. كل الخيارات مفتوحة أمام دعاتها أو أدعيائها الذين
يتحملون مسؤولية خياراتهم..فإما مشروع دولة مدنية تقوم على المواطنة وسيادة
القانون.. أو مشروع حروب عنصرية وطائفية وأهلية، لن يرقى مسعروها إلى مرتبة أصغر
أمير حرب في الصومال..
لعلهم يعقلون..
========
المقال على الرابط التالي:
http://www.algomhoriah.net/articles.php?lng=arabic&aid=34082
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق