جريدة الحياة
لم يكن اختطاف الحوثيين مدير مكتب
رئاسة الجمهورية اليمنية الدكتور أحمد عوض بن مبارك، ومن بعدها سيطرتهم على القصر
الجمهوري، سوى بعض من تجليات الممارسات الميليشياوية التي يقوم بها عبد الملك
الحوثي في اليـــمن منذ إلقائه القبض عملياً على السلطة أواخر أيلول (سبتمبر) ٢٠١٤.
بقــوة السلاح وبدعم سندهم المحلي وبمباركة عابرة للحدود، صعد الحوثيون من محمية
صعدة إلى طاولة حوار وطني في صنعاء، أنعمت عليهم دوراً سياسياً كان بعيد المنال،
وأطلقت يدهم تدريجاً في رحاب اليمن الواسعة ليصبحوا أقوى ميليشيا وليعملوا على
إرساء أسس «الدولة الحوثية» بانقضاضهم على مؤسسات الدولة الهشّة وعلى مشروع الدولة
المدنية الحديثة التي كان ينشدها اليمنيون.
حتى زمن قريب، كان الحوثيون يسعون
إلى الثأر من ست حروب خاضوها مع نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح. ما كانت
مطالباتهم القديمة بالاعتذار والتعويض والإعمار والتنمية والمواطنة المتساوية
والشراكة الوطنية سوى ذرّ للرماد في عيون الجميع، باستثناء صالح. فهو الوحيد الذي
نجح في امتصاص نقمتهم ومظالمهم من دون أن يقدّم لهم أكثر من ترسيخ صورتهم كميليشيا
خارجة على القانون. وهو الوحيد الذي نجح في امتطائهم للانقضاض على مشروع الدولة
التي إن قامت، سوف تطويه إلى الأبد. وهو الوحيد الذي نجح في إزاحة أصابع الاتهام
الدولية عنه جزئياً باتجاههم، وفي تبرير حروبه عليهم من دون جهد يذكر، وربما ينجح
في تطويقهم وتحجيمهم مستقبلاً.
خلال جلسات الحوار، بدا الحوثيون
مدافعين عن بناء الدولة المدنية الحديثة. خاضوا نقاشات طويلة وأظهروا حرصاً على
صوغ مبادىء واضحة لبناء تلك الدولة وتحقيق المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية
والمشاركة السياسية وصون الحريات وحقوق الإنسان والتزام المواثيق الدولية. اغتيل «حكيمهم»
الدكتور أحمد شرف الدين في ٢١ كانون الثاني (يناير) عام ٢٠١٤، يوم توقيع وثيقة
الضمانات لتنفيذ نتائج مؤتمر الحوار الوطني، بهدف الحؤول دون إقرار الوثيقة وعرقلة
اختتام الحوار. لم يؤخذ اتساع نفوذهم وازدياد تسلّحهم وتنظيمهم على محمل الجدّ،
ولا اعتراضاتهم ورسائلهم وتلويحهم وتهديداتهم التي تلت اختتام الحوار، أكانت تلك
المتعلقة بتقسيم أقاليم الدولة الاتحادية المتفق عليها أو تشكيلة الهيئة الوطنية
للرقابة على تنفيذ نتائج الحوار أو تشكيل حكومة جديدة بعد أزمة رفع الدعم عن
المشتقات النفطية أو سواها.
وجاء اتفاق «السلم والشراكة الوطنية»
ليصبّ الزيت على النار. إذ بدت بنوده ذات غلبة حوثية واضحة، ورآها بعضهم بمثابة
تشريع لقبضتهم الممسكة بخناق العاصمة وما تعنيه، وتفويض شبه مطلق أمام دولة عاجزة
وجيش متعدد الولاءات وسلطة غير راغبة بل غير قادرة على مواجهتهم بالسلاح الشرعي. وذهب
آخرون إلى حدّ اعتبارها بمثابة إعلان الحوثي، الذي يسميه بعض اليمنيين «سيّد الكهف»،
رئيساً للدولة الحوثية الوليدة.
لا يهمّ انفصام الحوثي بين رفض
المبادرة الخليجية ثم المشاركة في حوار وطني أرسِي على إثرها. ولا يهمّ أن يجاهر
بتمسّكه بنتائج الحوار واتفاق «السلم والشراكة الوطنية». ما يهمّ اليوم أنه، من
صعدة، يصوّب على كلّ ما جَهِد اليمنيون واليمنيات لتحقيقه منذ عام ٢٠١١، ويطلق
رصاصات الرحمة على حقّهم المشروع في دولة مستقرة وآمنة. وما يهمّ أكثر أنه بات
واضحاً في مبتغاه. يبدو لكثيرين أنه لا يسعى إلى بناء دولة والشراكة مع من فيها،
بل إلى هدم ما تبقى من هيكل الدولة القائمة على رؤوس من فيها. لا يهمّه احترام
حقوق الإنسان ومعالجة المظالم، بل يمعن في انتهاك هذه الحقوق وتوسيع دائرة المظالم
على امتداد البلاد. لا يريد صون الحريات والتعليم، بل ينتهك العام والخاص بما في
ذلك حرية المرأة وحرمات المنازل والمؤسسات التعليمية. لا يبغى التعددية والمساواة،
بل يتعمّد إعادة استهداف الآخرين المختلفين، ومنهم أحزاب وأقليات مثل الطائفة
اليهودية.
يتردّد أنّ إيران أرغمت الحوثي على
المشاركة في العملية السياسية، في حين كان الانتقام دافعه المبطّن، إلى أن رفع
رايته الخضراء و»صرخته» الفئوية في وجه الجميع بعون من «جلاده». ومنذ «غزوة» دماج
وعمران وصولاً إلى صنعاء، يدشّن يومياً فتحاً جديداً على أنقاض الحوار والعملية
السياسية، ليس آخر فصوله انتقام طال انتظاره من شخص بن مبارك وما يمثله بالنسبة
إلى رئيس اليمن وشبابه وحاضره ومستقبله. وليس صدفة أن يتقاطع كلّ ذلك مع رغبات
صالح. مسوّدة الدستور ليست سوى عذر باهت.
يقول الحوثي قوله ويمضي كما يحلو
لإيران الرافعة شعار «الموت لأميركا» والمرتمية في أحضانها في آن. يقول اليمن بات
امتداداً لولاية الفقيه، ولا يسمع غير رجع الصدى. لا رادع، أو لا إرادة للردع. ويسلّم
المجتمع الدولي بالأمر الواقع، كما سلّم في لبنان والعراق وسورية على التوالي. ومع
انسداد أفق حلّ سياسي توافقي وجامع، سوف يواصل الحوثي جرّ اليمن إلى ساحة
الميليشيات المفضلة: الاقتتال. فقد أثبت من خلال جولات التفاوض الكثيرة جدارته في
إتقان لغة السلاح دون سواها، تماماً كما أثبت فشله في إدارة شؤون الدولة منذ
انقضاضه عليها قبل أشهر مضيّعاً فرصة ذهبية قد لا تتكرر. وبما أنه قدّم نفسه على
أنه «قائد المسيرة القرآنية»، وحده لا شريك له، مخلّص اليمن من الفاسدين ومطهّره
من «الدواعش»، وباني الدولة وفق المقاييس الحوثية - الولاية فقيهية، فإنه يسير على
رمال مذهبية وسياسية واقتصادية واجتماعية متحرّكة سوف تبتلعه - مثلما لفظته يوماً -
حين تستوي الظروف الإقليمية وتستدعي التسويات الكبرى إنهاء الدور المنوط به. حينذاك
فقط، قد تتاح لليمنيات واليمنيين فرصة جديدة لإعادة إطلاق مشروع بناء دولتهم بعدما
فاتتهم الفرصة الماضية.
* صحافية مقيمة في نيويورك ومستشارة
إعلامية سابقة لمساعد أمين عام الأمم المتحدة ومستشاره الخاص لليمن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق