ميساء شجاع الدين |
لم يكن هناك جديد سوى إن المسرحية كانت تحتاج فصل جديد،
هكذا يكون الحوثي اكمل علينا انقلابه واتمم علينا نقمته التي بدأها غير مشكوراً
يوم الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي، عندما لم ينقلب فقط على السلطة والعملية
السياسية بل اتجه لتقويض الدولة اليمنية سواء بوعي لفداحة ما يرتكبه أو دون وعي.
يصعب تصور وعي الحوثي بتداعيات ما يفعله وهو يلهث وراء
اغواء الوعد الإلهي والتاريخي المقدس للسيطرة على الدولة اليمنية، لذا لم يكترث
الحوثي كثيراً بمباحثاته مع احزاب اللقاء المشترك وهو يعلم جيداً إنه قادر على فرض
واقع جديد على عالم لا يمانع من التعامل معه ضد القاعدة حتى لو انتهك الحوثي حياة
وسلم اليمنيين بشكل يفوق ما تفعله القاعدة، أما احزاب اللقاء المشترك فتهافتها كان
كفيل بالقضاء عليها وهي التي لهثت وراء الحوثي وتركت شبابها يواجه آلة القمع
الحوثي منفرداً.
الحوثي يتوهم إن هناك وعد حق يمكنه من حكم اليمن لكنه لن
ينجح لأنه يمتلك عصبية وليس هوية وطنية، ومشروعه السياسي المتخلف لا مكان له بهذا
الزمن وفارق كبير بينه وبين مشروع وطني يسعى لتحديث الدولة اليمنية. والأهم إنه لا
يمتلك مقومات النجاح والاستمرار، فالأقلية قد تستبد وتحكم لو امتلكت موارد مالية
كافية للسيطرة وخلق رضا شعبي، فيما عدا ذلك فالحوثي بقوته العسكرية قادر على اسقاط
المدن والمعسكرات لكنه لن ينجح بحكم اليمن.
اوهام التمكين الإلهي التي تقف وراء نصر الحوثيين حسب
اعتقادهم كان يؤمن بها بشدة الإمام الهادي، الذي كان يؤمن إن نصر الإمام ليس سوى
تمكين إلهي ودلاله على أحقيته الإلهية كإمام، قبل اكثر من الف عام أسس الإمام
الهادي أول دولة زيدية باليمن، وبعد ما اسقط جميع مناطق اليمن عسكرياً، لكنه لم
يحكم طويلاً بل انحسر ملكه بسبب انتفاضة شعبية اجتاحت اليمن حتى انتهي به الحال في
صعده ينازع الموت ويحاول الحفاظ على وجوده في صعده فقط.
هكذا انتهت أول دولة زيدية تأسست في عهد الفوضى العارمة
بعد انسلاخ اليمن من الخلافة العباسية، لتتأسس بعدها عدة دول أبرزها وأهمها على
الإطلاق الدولة الصليحية والدولة الرسولية اللتان نجحتا في حكم اليمن موحداً وكانت
عصور رخاء وازدهار، بينما ظلت الزيدية بمفهوم الخروج عن الحاكم حالة متمردة خارجة
عن الدولة تبرز عند ضعفها، وقد تنجح احياناً في بسط سيطرتها على اجزاء من اليمن.
دخول العثمانيين لليمن وطردهم بتزعم الزيدية كانت نقطة
تحول حقيقية في اليمن، حيث تحولت القوة السياسية لأقصى الشمال. عندما خرج
العثمانيون في القرن السابع عشر سيطرت الإمامة على اليمن بأكمله مستفيدة من أرباح
احتكار تجارة البن ورغم الربحية العالية لهذه التجارة، إلا إن الأفق الضيق للدولة
الزيدية بسبب تبنيها لفكرة الخروج عن الحاكم لم يخلق حالة إنتاجية أو يشكل قوة
عسكرية نظامية موالية للإمام، لذا استنزفت هذه الارباح في كسب ولاءات القبائل وليس
في بناء مدارس واسطول بحري هائل مثل الرسولية ولا بناء سدود وشبكات ري مثل
الصليحية.
كانت نموذج للدولة الريعية البسيطة التي لا تمتلك أفق
حقيقي وتهاوت بعد أن فقدت اليمن احتكارها لتجارة البن، وهكذا شهدت اليمن اضطرابات
منذ بدايات القرن الثامن عشر، وخرجت مناطق كثيرة عن السيطرة وجاء الاحتلال
البريطاني والعثمانيون في القرن التاسع عشر على واقع يمني منقسم ومضطرب.
بعد سقوط الخلافة العثمانية شهدت اليمن بشطره الشمالي
آخر محاولات احياء الإمامة الزيدية، ولأنها فكرة صارت خارج الزمن فكانت محكومة
بالعزلة، في ذلك العهد البائس شهدت اليمن الكثير من الاوبئة والمجاعات ولم يخلو من
اضطرابات سياسية مثل انتفاضات شعبية وعمليات اغتيال طالت رأس الحكم اكثر من مرة،
حتى انتهى بهذا العهد في فتح شعبي مواكب للعصر اسمه ثورة سبتمبر في عام 1962م.
يراود الحوثي اوهام كثيرة حول تاريخ اليمن التي حكمها
لأكثر من ألف عام وهذا غير صحيح، وأوهام حول تمكين إلهي وهذا كلام ثبت فشله عند
صاحبه الأول الإمام الهادي، فلو كان نجاحه في اسقاط المدن نصر إلهي فبالتأكيد
وفاته وهو يدافع عن وجوده بصعده بعد انتفاضة شعبية شاملة ضده، وبذات المعيار سيكون
عقاب إلهي.
لا يبحث الحوثي عن تسوية سياسية بل يتبع وهمه المقدس
للوعد التاريخي والإلهي لحكم اليمن، ولن ينجح احد في مواجهة الحوثي إلا لو عرف
حقيقة إن ما يجري ليس انقلاب علاجها شرعية دستورية وعملية سياسية بل ما يجري هو
عملية تقويض دولة لبناء وهم مقدس.
حتى محاولات استنساخ الوضع الإيراني وجمهورية ولاية
الفقيه ستبوء بالفشل لأنه ببساطه ارتبط تاريخ المذهب الاثنا عشري في إيران ووصوله
لسدة الحكم بالدولة الصفوية المعادية للعثمانيين، وبالتالي بعملية إحياء الهوية
القومية الفارسية، لذا لم يجد هذا المذهب دولة أخرى، كذلك كانت الثورة الإيرانية عام
79م ضمن عملية إحياء هوية قومية فارسية وليس احياء ديني طائفي بالدرجة الأولى،
فالمذهب في الحالة الإيرانية هو أحد أوجه الهوية الفارسية وليس العكس. بينما الأمر
يختلف في اليمن حيث ظلت الزيدية مرتبطة بعملية انقسام مناطقي وليس هوية قومية.
الحوثي ليس إلا تجلي لأزمة الزيدية كما القاعدة تجلي
لأزمة المذاهب السنية، هذه حالات دينية يتجلي فيها الانغلاق والجمود لينحي منحى
التطرف والعنف والانفصال عن الواقع، هكذا لانرى وسط جماعة الحوثي علماء زيدية
معروفين ولا أسر هاشمية معروفة من بيوتات صنعاء الشهيرة، لأنه ببساطة الآليات
الاجتماعية لبنية الإمامة تقوضت تماماً بعد ثورة سبتمبر وهي كانت تتشكل من فئات
الهاشميين والقضاء والعلماء والعنصر القبلي المقاتل، وما تبقى من هذا مجرد عصبية
سلالية عمياء وقبيلة متهمشة وقتال بسبب الفقر واليأس والجهل.
تحرك الحوثي مخالف لكل ما جرت عليه الإمامة الزيدية من
قبل سواء فقهياً أو اجتماعياً، تحرك يرتبط بالفراغ وموازين القوى الدولية
والإقليمية وشخص الحوثي، وليس مرتبط بعملية إحياء حقيقي للمذهب الزيدي وفكره
السياسي الذي عفا عنه الزمن ويعكس فيما يعكس عملية التقويض الذي اصاب الحاضنة
الاجتماعية الطبيعية للمذهب.
الحوثي لن يحكم اليمن لأن ما جرى في سبتمبر عام 1962م
وفبراير عام 2011م لا يمكن محوه، الثورة التي قامت ضد التمايز العنصري والتخلف
الامامي ومن ثم الثورة التي قامت ضد الفساد والاستبداد ومخلفات التخلف الامامي
بشكله الجمهوري القبلي، كلاهما انجازان شعبيان يستحيل العودة لما قبلهما، لكن
الحوثي ضرورة لكي تقوض فكرة الإمامة الزيدية للأبد، لأنه سوف يحاول اصدار النسخة
الأكثر تشوهاً وبشاعة بشكل لا يغيب عن بال أحد، الحوثي ضرورة لكشف كل قوى التخلف
في اليمن، لكشف انتهازيتها وفسادها وعمالتها. الشعوب لا تتعلم إلا من تجاربها لذا
تجربة "الكي" الحوثية لن تفعل شيء سوى اسقاط كل الاوهام الدينية
والتاريخية المقدسة، لكنها لن تقف طويلاً في منع اليمنيين من السير نحو مستقبل
مشرق ينتظرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق