تُطوى اليوم مسيرة عشرة أشهر من مؤتمر الحوار الوطني، استُغرقت في نقاش قضايا شائكة ومعقدة، ودراسة جذورها وأبعادها وتداعياتها، وتقرير حلولها التوافقية، التي ستشكل أساساً لصياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن الحقوق ويصون الحريات، ويؤسس لدولة محترمة مثّل غيابُها المزمن عمق المعضلة اليمنية المتشعبة في كل اتجاه.
ومهما تباينت الآراء والمواقف حول
الحصيلة النهائية التي أفضت إليها تلك النقاشات في تشخيصها لجذور الأزمات والمشاكل
محل الحوار، ورؤيتها للحلول والمعالجات، إلا أن القيمة الحقيقية لتلك المخرجات
تتمثل في ترجمة النصوص إلى سياسات وإجراءات تُحدث تغييراً يلمس أثره الناس في
حياتهم، وتحقق تطلعاتهم في بناء دولة مدنية ملتزمة، تقوم على حكم القانون،
والعدالة والمواطنة.
وأن يخوض اليمنيون غمار تجربة كهذه
لم يألفوها بكل ذلك التنوع المتنافر في الأيديولوجيا والمصالح والتوجهات، وبتلك
الأجندة المثقلة بإرث ماضٍ متضخم بمظالم متراكمة، وحروب مدمرة، وعدالة غائبة،
وشراكة منتهكة، ومواطنة منتقصة، ودولة مغتصبة، فذلك بحد ذاته يعد إنجازاً معتبراً
يؤسس لثقافة حضارية راقية، ومجتمع مسالم متعايش، متى ما استلهم الفرقاء قيمة
الحوار، وآمنوا بها، واعتمدوها منهجاً لحل خلافاتهم، بعيداً عن نزعة الإقصاء،
وسلوك العنف، وغواية الحروب.
وتبعاً لحداثة التجربة، وغياب الثقة
والحسابات الضيقة والانتهازية لدى بعض الأطراف، وغياب التهيئة الملائمة للحوار
تطاول عمر المؤتمر بأربعة أشهر على عمره الأصلي، ووصل المتحاورون إلى مستويات
معقولة من التوافق، وتكفلت لجنة التوفيق بحسم تفاصيل كثيرة محل خلاف وتباين في
وجهات النظر.
اختتام مؤتمر الحوار، ليس النهاية
بل هو بداية مرحلة جديدة من العمل المرتكز على أسس توافقت عليها معظم
الأطراف،ويتصدر مهامها صياغة دستور يضمن الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية
والمواطنة المتساوية، وفقاً للموجهات التي رسمها مؤتمر الحوار، إضافة لمنظومة
قانونية منسجمة مع الدستور، وتلبي تطلعات المواطنين في ضمان حقوقهم وحرياتهم
وكرامتهم.
وإجمالاً يبقى الحوار بكل قضاياه،
ومخرجاته، سواء تلك التي حظيت بتوافق كامل، أو تلك التي لازال هناك خلاف في
تفاصيلها حتى الآن كعدد الأقاليم، مجرد نصوص، سيعاد صياغتها في نصوص دستورية
وقانونية، تحدد ملامح وشكل الدولة، وصلاحيات مؤسساتها والأقاليم والوحدات الإدارية
والعلاقات فيما بينها، لكن عقدة اليمنيين الدائمة تمثلت في العلاقة بين النصوص،
وترجمتها على الواقع، في العلاقة بين المواطنين والدولة، المحكومة بالدستور
والقانون.. تلك العلاقة كانت قاصرة للغاية، ويتم تطبيقها بشكل مزاجي، في ظل غياب
المنظومة الفعالة المتكاملة لأجهزة الدولة وخصوصاً الأمنية منها، والسلطة القضائية.
وإذا كانت المسألة كذلك، فإن
الحوار، وما يترتب عليه من إجراءات وصياغة عقد اجتماعي، ومنظومة قانونية، إن لم
تفضِ لبناء دولة قوية، تؤدي وظيفتها بمسؤولية والتزام وتحفظ مصالح المواطنين،
وتضبط العلاقة فيما بينهم، وفقاً لمبدأ المساواة، فلن تكون أكثر من نصوص تضاف إلى
سابقاتها التي كانت مشكلة، عوضاً عن كونها حلاً لها.
بدون تحقيق الدولة القائمة على
المواطنة والحكم الرشيد، فلن يكون قادم الأيام سوى تعقيد إضافي يضاف إلى القضايا
وآثارها المتراكمة والنزعات العصبوية المتناسلة، التي أصبحت مصدر قلق للجميع في
مختلف أنحاء البلاد.. وذلك ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تحديد الأقاليم في
الدولة الاتحادية الجديدة، ليؤدي التقسيم الجديد دوره الفعال في تخفيف المركزية
المفرطة.
أمام اليمنيين فرصة سانحة لبناء
الدولة، إذا ما روعيت مقتضيات وجودها وإثبات هيبتها، وبسط نفوذها على جميع
أراضيها، وسحب رصيد القوة من مراكزها لصالحها، بما يمكنها من إعمال قوانينها على
الجميع دون استثناء، وضمان المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص وتعزز الإدارة بما يعوض
اليمنيين عن عقود من غياب الدولة وإضعاف هيبتها كانت تبعاتها على حساب أمنهم
وتنمية وطنهم ومستقبل أجيالهم.
مخرجات مؤتمر الحوار أمام محك
اختبار حقيقي من قبل القوى المشاركة في الحكم، لتضع نصب اعتبارها مصلحة الوطن،
بعيداً عن الحسابات الأنانية والفئوية الضيقة، وتكون أساساً لبناء الدولة القادرة
على أداء وظيفتها، وبغير ذلك فلن تكون سوى عقدة إضافية تهدر سنوات إضافية من عمرهم
في الحروب والصراعات، عوضاً عن التنمية وبناء الإنسان.
saminsw@gmail.com
نشر المقال في صحيفة الجمهورية السبت
25 يناير-كانون الثاني 2014
http://www.algomhoriah.net/articles.php?lng=arabic&aid=44838