بإمكاننا أن نتصور الآن مشهداًَ مختلفاً للدولة المدنية التي ينشدها الطرف القريب من صنعاء –إذا ما أكمل مشواره- مدججاً بجحافل مسلحين قبليين غير نظاميين، وترسانة أسلحة لا تمتلكها سوى الدول، ولا ينقصها حتى الآن سوى الطيران.
لا يرغب عبدالملك الحوثي بالحكم ولن
يكون واجهته، ولا يريده أصلاً، إذا ما أنجز خطته في السيطرة والاستحواذ.. الرجل
يستلهم تجربة مرجعية المرشد في إيران، باعتبارها أعلى وأسمى نظرية للحكم، على
تخلفها ومناقضتها لأبسط مقتضيات المدنية والمساواة، على أن هذا لا يعني بالضرورة
وجود علاقة ودعم إيراني مباشر للرجل لإنجاز مهمته.
كتبت قبل قرابة عامين أن الرجل لا
يرغب بتأسيس حزب سياسي، ولا بسلطة محافظة، ولا رئاسة دولة، إذ يرى نفسه أكبر من
هؤلاء جميعهم، في موقع المرجعية للجميع، دولة وسلطة وأحزاباً وجماعات، وراسم
سياسات، بواجهة دولة تنفذها.. بطبيعة الحال أتحدث عن استلهام التجربة الإيرانية
المتخلفة في الحكم، وليس عن شيء آخر من قبيل الدعم المباشر الذي لا أملك دليلاً
عليه، سوى التقارب المذهبي.
ثمة كومبارس كُثر يتغنون بالدولة
المدنية والحقوق والحريات والمدنية، ويتذمرون من تخلف الأحزاب ونزعتها الإقصائية
في مضمار السياسة، لكنهم يكبَّرون ويهللون لميليشيا مسلحة، وسيلتها البائنة حتى
الآن هي العنف لإقصاء الخصوم، مع رتوش سياسية تحضر للاستشهاد بحسن النوايا، دون أن
تغير شيئاً من قبيل مشاركتها في الحوار.. وهؤلاء الكومبارس المدنيون، هم من
سيتكفلون بإكمال المشهد الكرتوني لدولة الميليشيا التي تقاتل من أجل المدنية.
خلال الأشهر الماضية، خاضت جماعة
الحوثي، وأطراف أخرى قبلية ودينية، ومختلطة، حروباً جاهلية مقيتة، وباعتباره الطرف
الأقوى، وريث الدولة في صعدة، كسلطة أمر واقع، جرت الأمور لصالحه، وتمكن من تغيير
موازين القوى السائدة لعقود في شمال الشمال، قبلية ودينية.. ألغى السلفيين بالمجمل
واستفرد بمشهد صرخة الموت واللعنة.. أقصى شيوخ آل الأحمر في قبائل حاشد بشكل شبه
نهائي، وأضاف نفوذها القبلي وقوتها المسلحة لرصيده، الذي طالما ناشدنا الدولة
الهاجعة سحبه لصالحها، وطالما أنها لم تفعل، فقد حضر من يؤدي ذلك الدور لصالحه.
أصبح لدينا طرف مستأسد، يتقدم على
ما دونه من الميليشيات القبلية، طوعاً وكرهاً، يندفع معززاً بمظلوميته التاريخية،
ويجهز على مراكز القوى القبلية، ويستبيح جغرافيا نفوذها التي خرجت عن سلطة الدولة،
بتواطؤ منها أو بدونه، على أنه رغم ذلك كله، لا زال يتحدث عن ذلك التغول، باعتباره
دفاعاً عن النفس، لكأنه يعيش ذات أجواء حروب صعدة الست مع نظام صالح.
ليس من المنطق الحديث عما يجري،
باعتباره ثورة حاشدية ضد مشايخ آل الأحمر المتسلطين.. بكل تأكيد تمكن الحوثي من
كسب مناصرين كثر من تلك المنطقة ومناطق كثيرة في اليمن، بأخطاء خصومه، سلطة، ومراكز
قوى عسكرية، وتيارات سياسية، لكنه استخدمها ووظفها ووجهها ودعمها لصالح ثأره، وحصد
نتائجها لصالح مشروعه الخاص، وليس لصالح مشروع وطني يؤسس للدولة المدنية التي
يزايد بها، أو يروج لها منظروه.
مستقبل الدولة المدنية في المناطق
التي سيطر عليها الحوثي، وأخرى يتوقع السيطرة عليها لا يحتاج لكثير من الإجهاد
لاكتشافه.. فالسلطة التي حكم بها في صعدة هي التي ستعمم.. لا صوت يعلو فوق الصراخ
بالموت واللعنة، جماعة واحدة تنشط، والويل لمن يخالفها، ذلك ما حصل مع السلفيين،
كجماعة دينية مسلحة مخالفة أيديولوجياً تمثل أقلية في إطار سلطة الأمر الواقع
للحوثي، وبعد أشهر من المواجهات كان مآلها إلى الخروج، باعتباره الحل المتاح
والأسلم.
بالنسبة للأطراف السياسية الأخرى،
فإن عليها أن تعمل وفقاً للمحددات التي يضعها الطرف النافذ بقوة من تلك الصراعات،
تماماً كحال صعدة في العامين الأخيرين التي طغى فيهما حكم جماعة الحوثي، وتراجع
فيها أي حضور للأطراف السياسية.
لازال أمام القوى المدنية والسياسية
الحية في البلاد أن تعمل شيئاً وتتكاتف ضماناً للدولة التي بقيت على الحياد حتى
الآن، ولم تتورط في الصراع بشكل مباشر، واكتفت بدور الوسيط لإيقاف جذوة الحرب المشتعلة
التي تتطاير شراراتها لتلهب بؤراً خامدة في مختلف مناطق البلاد.
القوى المدنية التي تؤمن بالتعايش
والعمل السلمي ينبغي أن تشكل جبهة ضغط جديدة، وتصطف سلمياً، بعيداً عن التجاذبات
السياسية، وتتدخل لصالح حضور الدولة، التي يحظى فيها الجميع بحقوقهم السياسية والمدنية،
وفقاً لما تم إنجازه في مؤتمر الحوار، بتوافق معظم الأطراف مهما كانت الملاحظات
عليه، لإنجاز عقد اجتماعي مدني جديد يحظى فيه جميع أبناء الوطن بفرص متكافئة،
وتتنافس جميع الأطراف على إدارتها وفقاً لبرامج سياسية وأسس ديمقراطية واضحة، تطور
الهامش الديمقراطي، لا بحكم القوة والسلاح.
وعلى الدولة أن تلملم شتاتها، وتعمل
بمسؤولية على شغل الفراغ الذي خلفته سابقاً وحالياً، وشغلته مراكز القوى والجماعات
المسلحة، وبغير ذلك فلن يكون المستقبل سوى مزيد من الصراعات والجبهات المشتعلة،
وسيكون خيار العنف مبرراً لبعض الأطراف السياسية في ظل استعلاء الطرف المنتصر وفرض
شروطه على الجميع، لتنتج سلسلة متوالية من الصراعات التي ستكون عواقبها وخيمة على
البلاد برمتها.
saminsw@gmail.com
نشر المقال في صحيفة الجمهورية السبت
08 فبراير - شباط 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق