منتصف الأسبوع الماضي، حقق أفراد
اللواء 312 مدرع بمأرب، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، إنجازاً مهماً يتمثل بتحرير
مختطف إيطالي بعد ساعات من اختطافه على يد مسلحين قبليين، بعد العديد من الحوادث
الشبيهة، التي افتقرت نتيجة مشرفة كهذه.
إنجاز كهذا، يحسب للدولة وأجهزتها
العسكرية والأمنية بشكل عام، ويستحق الاحتفاء والتقدير، إذ يعيد للمواطنين – بل
وللمجتمع الدولي- جزءاً من الثقة في كفاءة أجهزة الدولة، وقدرتها على أداء وظيفتها
الحيوية التي لا غنى لأي مجتمع عنها.
من شأن ضبط عدد من الخاطفين متلبسين
بالجريمة، أن يقود لكشف كثير من أسرار الاختطافات التي اكتنفها الغموض في الآونة
الأخيرة، والتي عادة ما كانت تنتهي بالوساطة وبعيداً عن أعين الدولة ووظيفتها.. من
شأنه أيضاً أن يخلط الأوراق على العصابات التي استمرأت تنفيذ تلك الجرائم المشينة،
المسيئة للبلاد التي يصنف شعبها من بين أكثر شعوب العالم حفاوة وترحاباً بزواره
الأجانب.
في ظل وضع طبيعي، فإن تحقيق إنجاز
كهذا هو وظيفة طبيعية للدولة لا تستحق كل هذا الحماس والاحتفاء، لكننا وضعنا ـ
للأسف ـ ليس كذلك في ظل كثير من التعقيدات في تركيبة وكفاءة وأداء الأجهزة الأمنية
والعسكرية، بعد أن غدا منتسبوها ذاتهم هدفاً مألوفاً لشتى الجرائم التي تنفذها
عصابات القتل والإجرام.
وذلك يقتضي عدم التقليل من شأن
إنجاز هؤلاء الجنود، بل مؤازرتهم وزملاءهم وتعويضهم جزءاً من حقهم المعنوي الذي
افتقدوه تبعاً للتراجع السائد والمألوف في أداء وظيفتهم، وعلى الدولة تقدير جميع
من ساهموا في تحقيقه بما يشكل حافزاً للتفاني في أداء مهامهم بإخلاص ومسؤولية، على
الدوام.
***
وفي مقابل ذلك الخبر البهيج، كان
هناك آخر على النقيض منه فعلاً ونتيجة للأسف، إذ اختطف مسلحون رئيس المحكمة
الجزائية الابتدائية بحجة القاضي محمد السروري بعد نطقه بالحكم في قضية قتل.. وتتردد
أنباء عن قصور أمني في حمايته، وتخاذل في تحريره، رغم أن خاطفيه معلومون بالضرورة،
لكأنه بحاجة لأن يكون أجنبياً لتقوم السلطات بمسؤوليتها تجاهه.
ما الذي تعنيه استقلالية القضاء،
وحصانة القاضي، إن لم تمكنه من أداء وظيفته بعيداً عن الضغوط، وتجنبه نزعة
الانتقام، ونصف الناس خصومه هذا إن عدل..
الاعتداءات على القضاة ووكلاء
النيابات تكررت في الآونة الأخيرة إلى مستوى تجعل منها ظاهرة وليست حالات فردية،
ما يهدد بنسف قيم العدالة برمتها.
القضاء ليس “شور وقول”، إما أن يقرر
القاضي حكمه تبعاً لرغبة طرفي التقاضي أحدهما أو كلاهما – وهذا هو المستحيل بعينه-
وإلا تحول خصماً يشرعون بتصفية حسابهم معه قبل غيره.
قطعاً مثل هذا الفهم لوظيفة القاضي
يعني إلغاء القضاء كلياً، إذ لا يمكن له أن يحصر مهمته في إرضاء طرف في النزاع على
حساب الآخر، أو التوفيق بينهما، بل الفصل في المنازعات بما تبين له من حجج وبراهين
وشواهد يدفع بها الطرفان، دونما اعتبار لمساحة الرضا التي يكتسبها المتخاصمون، على
أن يضمن المساواة بينهم.
استقلالية القضاء ليست فقط فصله عن
بقية سلطات الدولة، بل أيضاً ضمان أن يؤدي القاضي عمله دونما رضوخ لتأثير وضغوط
المتنازعين، على أن نقض حكمه مكفول في محاكم الدرجات العليا، وثمة جهات مسؤولة عن
محاسبته إن وجد منه انحياز لأحد الطرفين.
ما يحدث للقضاة ينال هيبة الدولة في
الصميم، ويعطل ميزان العدالة ويلغي الدستور والقانون ويهدر حقوق الناس، ويمثل
عدواناً على إنسانيتهم وكرامتهم جميعاً.
هذه القضية لا تعني القضاة وحدهم،
وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها المضاعفة فيها، وأن تضمن له وجميع زملائه أداء
وظيفتهم، وإنصاف أصحاب الحق من غرمائهم، بعيداً عن الضغوط ودونما مراعاة لنفوذهم
وسطوتهم.
هيبة الدولة يجب أن تكرس بدءاً من
إعلاء سلطة القضاء، وتعزيز استقلاليته وإنفاذ أحكامه، وتكريس حصانة القضاة وقدسية
مهمتهم باعتبارها الضامن للحقوق والمساواة وإعمال القانون، وبدون ذلك لن تكون
دولة، ولا عدالة غير تلك التي يقررها أصحاب القوة والنفوذ.
نشر المقال في صحيفة الجمهورية السبت
29 مارس - آذار 2014