الخميس، 20 نوفمبر 2014

ثالوث الحراك المتطرف .. ومليونية السقوط


كريم الحنكي

يوم أسميت فعالية 21مايو2014 "مليونية الوداع"، انسعر عليَّ في الفضاء الافتراضي كثير من الأصوات التي عاد بعضها في ما بعد، فإذا هو وليٌّ حميم. وها أنذا اليوم أدعو فعالية 30نوفمبر الوشيكة "مليونية السقوط". ولا بأس بأن أواجه سعاراً آخر بسبب ذلك يفوق سابقه.
أما فعالية 14أكتوبر الأخيرة، فكانت برأيي صحوة تسببت بها عوامل لا صلة لأوهام التحريريين الاستقلاليين بها؛ أظهرها حركة أنصار الله دون قصد منها بما أنجزت من تحول تاريخي في موازين القوى في الجمهورية اليمنية التي نحن جزءٌ منها، شئنا أم أبينا. ولكن تلك الصحوة بالنسبة للحراك المتطرف أشبه ما تكون بالصحوة التي تصيب المرء قبل ملاقاة وجه ربه، فهي صحوة ما قبل الموت أو السقوط الذي لا يمكننا تجنبه إلا إذا نجحت قوى العقل في الجنوب -ولن تنجح- في جعل يوم 30نوفمبر القادم: يوم "استقلال" الجنوب عن الحراك المتطرف الواقع في قبضة الشطط والجموح والهوس؛ يوم "فك ارتباطه" بقوى التحرير والاستقلال والجنوب العربي، هذا الثالوث غير المقدس؛ بل المدنَّس باللؤم والجهل والانتهازية على مستوى قياداته المتهافتة تهافتاً منقطع النظير على السلطة ولو نكبت في سبيلها بشعب كامل لم يبرأ بعد مما أصابته به سابقاً من النكبات.
إن دافعي الرئيسَ إلى مخالفة الجنون الصارخ في الجنوب هو الحرص على إظهار صوت الحراك العقلاني المتهيِّب والمتغيِّب عن الساحة الشعبية المتأثرة بصراخ تلك القوى وطنين تطلُّعها المرَضيِّ إلى السلطة. أما الأسباب التي بنيت عليها ما ذهبت إليه هنا، فهي قائمة على بطلان مفاهيم التحرير والاستقلال والجنوب العربي جميعها، لكونها لا تمثلنا نحن الأغلبية الصامتة من شعب اليمن الجنوبي؛ ولأنها إنما ابتُدِعت لأسباب أنانية بحتة غايتها سحب القاعدة الشعبية بعيداً عن قوى العقلانية والاعتدال بهدف الاستئثار بقيادة الشارع الجنوبي العاطفي. وهذه الأسباب هي:
أولاً: بطلان التحرير، لأنه -لغةً واصطلاحاً- لا يصلح شعاراً وهدفاً سياسياً لحركة نضالية سلمية؛ ولا يلائم إلا حركات الكفاح المسلح -الذي يمثل انتحاراً في حالتنا. لكن رافعيه كانوا يستحضرون للناس "تحرير جنوب اليمن المحتل" في الستينيات، ويشتغلون على عواطف العامة لكي تنجر وراءهم؛ وحين انجرت كانوا هم أنفسهم قد أصبحوا أسرى لشعار رفعوه لأسباب انتهازية ثم لم يستطيعوا الفكاك منه. فالذين ابتدعوا التحرير هم في أحسن الأحوال قادة ميدانيون شعبويون لا يصلحون للعمل السياسي الدبلوماسي الكفيل بإيصال حركات الشعوب السلمية إلى مبتغاها عبر أسلم الطرق والوسائل؛ لكنهم لا يعرفون ذلك أو لا يعترفون. فالتحرير ليس مطلباً يُرفع إلى المجتمع الدولي وشرعيته مثلاً؛ بل فعل يتم إنجازه في الواقع ويفرض شرعيته الخاصة عليه.

ثانياً: بطلان الاستقلال، لاستحالة القول بأنه يمثل خياراً جامعاً لشعب الجنوب، أو حتى لغالبيته اليوم؛ فذلك مما لا يمكن الجزم به إلا باستفتاء شعب الجنوب بشأن خياره وموقفه من الوحدة والانفصال عندما يمكّنه العمل السياسي الناضج والمنظم من أن ينال حقه في تقرير مصيره. عندئذٍ -وعندئذٍ فقط- يمكننا جميعاً أن نحدد باطمئنان ما الذي يريده شعبنا في الجنوب دون أي صناعة زائفة لإجماع تتوهمونه. فبأي حق تعممون خياركم في الاستقلال على شعب كامل لم يستجب لكم طوعاً حتى بالعصيان المدني، فرحتم تفرضونه كرهاً عليه بـ"البلطجة" والترهيب؟!

ثالثاً: بطلان الجنوب العربي، لكونه هوية لقيطة ليس لها تاريخياً أي منشأ عربي إسلامي قبل عام 1839؛ فمنشأها غربي خالص واستعماري صِرْف فرضته بريطانيا على شعبنا في الجنوب وتبنته إحدى قواه الوطنية لأسباب سياسية بحتة. وبعد قيام دولة الاتحاد بهذا الاسم لم تشمل سوى الجزء الغربي المعروف من جغرافيا اليمن الجنوبي، ولم يعترف بها العالم العربي أو الإنساني (عدا بريطانيا) ولا الشرعية العربية أو الدولية. وعليه، فإن الجنوب العربي لا يصلح هويةً ثقافيةً تاريخيةً لشعب الجنوب، إلا من باب الإهانة(...) والعياذ بالله. كما إنه لا يصلح حتى هويةً سياسيةً للجنوب طالما لم يخترها شعبه باستفتاء عام. فبأي جنوبٍ عربي تهرفون؟ وبأي سفاهةٍ تريدون فرض هوية لقيطة على شعبٍ أصيلٍ كريم، ويمنيٍّ حُرٍّ صميم؟

إن سعي الكثيرين من أبناء الجنوب إلى الانفصال عن الجمهورية اليمنية يا سادة لا يعني على الإطلاق سعيهم إلى الانفصال عن اليمن وعن هويتهم اليمنية. كفاكم تدليساً على الناس. ولتعلموا أن الصوت الصارخ ليس حجة لصاحبه؛ بل حجة عليه غالبا. فهو لا يصدر إلا عن إقصائيين حتى النخاع لا يتورَّعون عن التخوين -أو التكفير، ولا فرق- لمخالفيهم. فبأي جنوبٍ تبشرون؟ وبأي عدٍّ تنازليٍّ تلوِّحون؟ وعن أية مدنيةٍ كنتم دائماً تتحدثون؟

جماهير الحراك السلمي الجنوبي هي أهم القوى المؤهلة للفعل الإيجابي البالغ الأثر على واقع الجغرافيا السياسية لمنطقتنا اليوم؛ لكن المؤسف أنها قوة معطلة بسبب انجرارها وراء قيادات هزيلة جداً وأصغر منها كثيرا. وبدلاً من أن ترفع تلك القيادات إلى مستواها، نجدها تنحدر هي غالباً إلى مستوى تلك القيادات؛ الأمر الذي قد يجنح بها إلى الفعل السلبي الخطر عليها وعلى مجتمعها قبل كل شيء.

خير للجنوب وحراكه وأهله جميعاً إذن أن يكون العد التنازلي المعلن عداً تنازلياً فكرياً لقوى التحرير والاستقلال والجنوب العربي وليس لأحدٍ سواها، وأن يكون 30نوفمبر فعالية السقوط المعنوي لهذا الثالوث الذي أصاب حراكنا بالتخبط والغلوّ والإعاقة الفادحة، بحيث يستعيد الحراك رشده واعتداله ومدنيته؛ من أن يكون سقوطاً للجنوب ونبل حراكه وسلميته، وأصالة مجتمعه وقيمه المدنية التي كنا نظنها لا تستحيل.
 =============
عن صفحة الكاتب في الفيسبوك.. 

ليست هناك تعليقات: