الخميس، 19 يونيو 2014

معركة اليمنيين الحاسمة

 ثمة تسطيح مخيف لما يجري الآن في اليمن، وسائل الإعلام تغرق في توصيف المشهد الملتهب، باعتباره صراع أجنحة داخل المؤتمر الشعبي العام، واختزاله في إغلاق قناة اليمن اليوم أو السيطرة على جامع السبعين. ما يحدث هو أعراض لمشكلة أعمق بكثير، بدأتها المبادرة الخليجية ورعاتها، والبلد اليوم يواجه النتيجة الحتمية التي لا بد منها.
 من خلال التسوية حصل صالح على ما لم يكن يحلم به حاكم تندلع ضده ثورة شعبية. كان رأسه مطلوباً على رأس النظام، فينتهي به الأمر شريكاً في سلطة انتقالية. نتيجة مشجعة بالتأكيد تعيد الروح لمن يكابد سكرات الموت، بفضل نخبة سياسية فاسدة وعاجزة تهيمن على قرار أحزاب يفترض أنها معارضة، وتقف مع الناس.
 لقد استوعبت التسوية الصفقة في بنودها بصورة كاملة، وإذ خلّصت صالح من ثورة محققة، منحته الفرصة لا ليكون شريكاً في الحكم فحسب، بل أتاحت له لعب دور شيطاني في التفاصيل، بحصانة كاملة من المساءلة عن كل جرائمه ومسروقاته، استحقت من السفير الأمريكي السابق، تصريحا ناريا لكي يتم إقرار الأمر بقانون في مجلس النواب.
 هذه الامتيازات لم تأتِ اعتباطاً، وليست وليدة توازنات قوة يمكلها الرجل على الأرض، خصوصاً لمن يدرك أن صالح هو من بادر إلى طلب الرحيل الآمن!  
أذعن الجميع لمنطق الأمر الواقع الذي فرضته رخاوة سياسيين مهترئين من صنف قيادات المشترك، وحين كنا نصرخ بأن على الجميع تأجيل أي شيء بما في ذلك الحوار، والبدء بهيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، واستعادة ما نهبته عائلة صالح والقادة العسكريين النافذين، كان رجال المرحلة "الحساسة" منهمكين في تقطيع أوصال الأجهزة الحكومية والوظائف العليا كغنائم واستحقاقات " ثورية".
  لا يخوض الرئيس هادي الآن معركة تخصه مع صالح، بل يخوض المعركة التي كان ينبغي أن تكون القضية الجوهرية لليمنيين منذ الأشهر الأولى للتسوية. لا علاقة للأمر بكون صالح في الطرف الآخر، بل لأن القضية تمس بصورة جوهرية فكرة الدولة برمزيتها السياسية في المؤسسات السيادية للبلد.
 منذ شروع هادي في إبعاد شبكة صالح العائلية المتمركزة في مفاصل الجيش والأجهزة الأمنية، كان واضحاً أن الرئيس الجديد يخوض مواجهة كان على قادة المشترك تكريسها في تفاصيل المسار السياسي الذي وعدوا بتحويله إلى خط ثوري لتحقيق أهداف الثورة!
 والواقع أن المواجهة كانت مبكرة بين رئيس جديد يريد أن يمارس مهامه وصلاحياته كصاحب قرار أول في البلد، مع رئيس سابق، منحته المبادرة دوراً مركزياً في السلطة، وتشجعه على أن يفكر بألف انقلاب. حتى لو اقتضى الأمر أن يحشد أتباعه ويستدعي عصبته القبلية والجهوية، وحتى المذهبية، فسيخاطب غرائز "النكف" بدافع أن ثمة "غريب تاريخي" يحاول أن يحكم اليمن من صنعاء.
  هذه ليست تخمينات، ووعيد صالح بدأ باكراً، إذ هدد هادي بإعادته إلى الجنوب وتوعده بمصير سيلفا كير. حدث ذلك على خلفية إصدار هادي قرارات بإبعاد بعض أقارب صالح في الأشهر الأخيرة من عام 2012.
 طبق معلومات من مصادر رفيعة في المؤتمر الشعبي العام تأكدُت منها من أكثر من مصدر ونشرت جزءاً منها قبل عام، فإن صالح كلف شخصاً مقرباً منه من قيادات المؤتمر في اتصال هاتفي بإبلاغ هادي هذه الرسالة : "بلغ صاحب الوضيع (يقصد مسقط رأس هادي) أننا عاد اجي أنتفه من بيته نتف، وانه لو استمر بهذه الطريقة با يحصل بيني وبينه مثل اللي حصل بين عمر البشير وسيلفا كير" والرسالة واضحة: سأستعيد السلطة في صنعاء وعليك أن تعود إلى موطنك في الجنوب، تماماً مثل النهاية التي آلت إليها السودان مع اختلاف في بعض التفاصيل : سيلفا كير رئيساً في الجنوب، وعمر البشير الرئيس الأبدي للشمال. في هذه الحالة لا بأس من حدوث الانفصال ولتذهب الوحدة إلى الجحيم، ذلك انها وحدة غير مرغوبة حين يكون الرئيس جنوبياً!. واضح أن صالح لا يتوعد هكذا دون عمل على الأرض.
 نهاية الشهر الفائت، كانت الأطقم العسكرية لمدخل مدينة ذمار الجنوبي والشمالي، تبرز في واجهتها بصورة مستفزة صوراً لأحمد علي عبدالله صالح كمرشح للمؤتمر الشعبي العام، ورصد صحفيون مدرعات في صنعاء تحمل الصور ذاتها، وهذه إشارات لا تخلو من دلالة سيما عندما تكون متبجحة بهذه الصورة وفوق مركبات تتبع الجيش. على الرئيس هادي أن يكاشف الناس بما لدى السلطات، ودفعته إلى هذا التحرك، فالأرجح أن محاولة انقلابية جرى تدبيرها أغضبت الرئيس.
  يلجأ صالح الآن بعد وضع اليد على مواقع إدارة مخططاته لاستنفار عصبيته وأحلافه القبلية، وهناك خطاب مناطقي طافح بأمراض صالح الطائفية المعروفة. يساند ذلك تصعيد ميداني لجماعة الحوثي المسلحة، وسط تهديدات لقيادات ميدانية باقتحام صنعاء "وطرد الفاسدين والمفسدين ونشر الأمان" كما قال قائدهم الغولي.
  لماذا يسود هذا الصمت لدى السياسيين والأحزاب، ولماذا يبدو الرئيس هادي كما لو كان وحيداً في معركة يكافح لمقاربة فكرة الدولة، وتصويب مسار كان يفترض أن يلتفت إليه الناس باكراً. نخشى أن خطاب التعصب سيستعر في صنعاء، في مواجهة من يعتبرونه دخيلاً على "المركز المقدس" وعدو "الحق الإلهي" فتجتمع الأحلاف التقليدية وتعود إلى سيرتها الأولى. هي معركة اليمنيين جميعاً، الحريصين على بناء يمن جديد تنهي عصوراً من هيمنة منطق " التغلب" وتخلص لفكرة الدولة، دولة القانون والمواطنة المتساوية. هل يقدر اليمنيون حجم المخاطر التي قد تنجم عن أي تسوية تتم على حساب الدولة؟
يبدو أن هادي ماضٍ في التزامه الذي قطعه لصالح متحدياً كرجل دولة مسؤول، رداً على المهاتفة المذكورة آنفاً.
 قال الرجل باعتداد شديد، للطرف الوسيط وقتها: أبلغ صاحبك (صالح) أن "صاحب الوضيع" سيقاتل حتى آخر لحظة، وسيموت واقفاً". لتكن معركة الجميع من أجل ترسيخ منطق الدولة، وليس تأييداً لشخص هادي، مع أن الرجل يفعل الكثير مما يستوجب المساندة، حتى لو ارتكب الأخطاء فعلى الجميع الضغط لتصويبه.
=================
عن صحيفة المصدر
http://almasdaronline.com/article/59047

ليست هناك تعليقات: