الجمعة، 13 فبراير 2015

جمال بن عمر: "اللورد كرومر" في نسخة عربية!


أيمن نبيل

سلوك مستشار الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثها الى اليمن جمال بنعمر يحتاج الى وقفة وتحليل، فهو نموذج ممتاز لسياسة الأمم المتحدة وتقاطعها مع سايكولوجيا السياسيين في "الداخل" وتلاقي كل هذا بالأحلام، الأوهام، والطموحات الفردية، وتحليل هذه الحالة يعطينا دروسا مهمة في سياق العمل السياسي "الوطني".
السيد جمال بنعمر على مستوى مهارات التواصل شخص اقل من عادي، كئيب، جامد وليست لديه امكانات استثنائية او حتى لافتة، وهذا سيلعب دورا حاسما في سلوكه وتصوره لنفسه بعد توقيع المبادرة الخليجية.
في مطلع شبابه، انخرط بنعمر في تنظيم يساري مناوئ للملك المغربي، اعتقل بسبب نشاطه السياسي ذاك ثم أخرج من المغرب بعد ضغوط مؤسسات حقوقية دولية الى لندن، ليبدأ من هناك مسيرته المهنية في المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة (بالمناسبة، مذكور في خانة الجنسية الخاصة بجمال بنعمر في سجلات طاقم الامم المتحدة ان بنعمر من المملكة المتحدة وليس مغربيا).
تدرج بنعمر وتنقل في أعمال الأمم المتحدة من غير تميز لافت، فترقيه وتنقلاته كانت تجري كأنه عباره عن "بيروقراطي" في جهاز مؤسسي ضخم، وليس بسبب سجل انجازات، حتى انعمت عليه الأقدار بفرصة اشبه فعلا بالمعجزة -ويروق له ترديد هذه الكلمة كثيرا في وصف يوميات السياسة اليمنية بعد تولي هادي للسلطة!- والتي تمثلت في ابتعاثه لليمن كممثل للأمين العام للأمم المتحدة في نيسان/ابريل 2011.
في بدايات عمله في اليمن ابان الثورة اليمنية، كان بنعمر في سلوكه يقارب "هنري كيسنجر" في السبعينات (سياسة الوفاق، ازمة حرب اكتوبر) حيث التواصل المستمر والانتقال والتقارير التي لا تتوقف، ولكن بغير التبجح بأستاذية، ومن المهم ان نقول هنا بأن كل مبعوثي الأمم المتحدة لدول الربيع العربي ابتداء من عام 2011 فشلوا جميعا، باستثناء بنعمر، لأن البلد الذي بعث اليه كان ذا سياقات سياسية وقوى واحزاب داخلية ومجتمع وترابطات دولية واقليمية استثنائية، حيث كان توافق جميع اللاعبين الدوليين على كل جزئيات الحل تقريبا -وهذا لم يحدث في أي حالة عربية اخرى في 2011 وما تلاها- وهذا ما جعل مهمة بنعمر لا تشترط لنجاحها الا شيئا واحدا: التواصل المثابر والتقارير .. فقط!
بعد التوقيع على المبادرة الخليجية وتشكيل حكومة الوفاق وبعدها بأشهر تولي منصور هادي للسلطة، انتهت المرحلة "الكيسنجرية" من سلوك جمال بنعمر وتوجت هذه المرحلة بالترقية التي نالها من الأمين العام للأمم المتحدة في 2012 كاعتراف بنجاحه الاستثنائي.
وقف بنعمر آنذاك أمام مشهد يعزز تضخيم الذات لأي نفس بشرية تعرف امكانياتها المتواضعة: مبعوث الأمم المتحدة الى ليبيا فشل، كوفي أنان والأخضر الابراهيمي فشلا في سوريا، وهما يكبرانه في العمر بربع قرن، وسجلهما المهني حافل بالعمل والنشاط والمناصب الرفيعة بما لا يدع مجالا للمقارنة بينهما وبين سجله العادي، ومع ذلك، نجح وفشلا، بالاضافة الى المقابلة الضرورية بين "نجاحه" وبين فشل الابراهيمي في ازمة حرب 94.
كل هذا بلا شك حفز الانتقال الى المرحلة التالية، وهي مرحلة اللورد كرومر - وهو المعتمد البريطاني في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين- حيث تضخم الذات والاحساس بها ك"سلطة" وليس ك"وسيط"، حينها بدأ بنعمر يستخدم نبرة سلطوية ويستعمل تعابيرا مثل "مزبلة التاريخ"، وهو تعبير انشائي يستخدمه طرف يدعي الحق في اصدار حكم أخلاقي، ولا يستخدمه مجرد "وسيط" لحل إشكال!
ولكن، كل هذا يمثل نصف التفسير، وبقي النصف الآخر والأهم، وهو سلوك الطرف المقابل، ففي السياسة الدولية، لا محل للقدرات الخارقة في متن تقرير حل الإشكالات، فهذه بقايا اساطير تنتشر بين سياسيي العالم العربي الذين يعانون من عقدة الخواجة، المسألة تعتمد على الظروف المحيطة وموازين القوى، وتعتمد على تصور الطرف المقابل لذاته وما يمثله وللآخر، فهنري كيسنجر -على عكس ما يحلو للمؤرخين العرب تصويره- لم يكن "ساحرا"، ولكنه في مهمته في ازمة حرب اكتوبر 73 تعامل مع طرف تصوره لذاته وللآخر (والاخر هنا هو كيسنجر) يعطي اوتوماتيكيا كل اوراق اللعب لهذا الوسيط القادم، فأنور السادات وطاقمه "وعلى رأسه اشرف غربال" كانوا من البداية مسلمين بعظمة كيسنجر ودور امريكا على حساب تصورهم لقدرات البلد والمجتمع، ولطالما عبر كيسنجر عن "حظه" بان بعث الى بلد فيه سياسيون كهؤلاء!
بالأمس، كثف موقف محمد قحطان مع بنعمر هذه الحقيقة بتركيز عال، فبنعمر لم يكن ليتحول الى "اللورد كرومر" لولا التبخيس الذاتي الذي يعانيه سياسيو اليمن وتحقيرهم لمجتمعهم، وقف قحطان وهو يخاطب بنعمر، مع ان الامر لم يكن يحتاج للوقوف اذا اعتبرنا ان قحطان سياسي "ند" يمثل قوة سياسية وازنة اتى بنعمر فقط ليحل اشكالا بين قوى سياسية محلية تعرف انها تمثل مجتمعا ومحمد قحطان يمثل احداها، ولكنه وقف وهو يخاطبه بارتباك، لان القوى السياسية ترى في بنعمر "صاحب الحل والعقد"، ولهذا يستدعيهم بالهاتف -كما ينشر اعلاميا، وهذا له دلالة رمزية على اية حال سواء كان صحيحا ام لا- بدون ضمانات غير "كلام" منه، وهو بالطبع يعرف هذا بحكم خبرته طوال اربع سنوات، ويرى بعينيه هذه القوى السياسية وهي تنتظر ما سيقوله الخليجيون لتحدد موقفها من اعلان مليشيوي يهدم الدولة ويهدد وجود مجتمع وجغرافيته!
لأنه يعرف هذا، كان المشهد بالأمس "نموذجيا": الأستاذ بصورته المكرسة عربيا وهو يؤدب التلميذ على تجاوزه لأدب التعامل، والتلميذ يصمت ولم يجرؤ على القول: لم يحدث ما تعهدت به لنا بالأمس واتينا هنا على أساسه، لم يجرؤ على ذلك، على الرغم من ان بنعمر ارتبك وظل يردد جملة "التوافق السياسي" دون مجابهة ما قاله قحطان بوضوح!
لا مكان ل "السحرة" في سياسات الدول، هناك ثقة بالذات واحترام للمجتمع تفرض احترام طرف على طرف وتلزمه حدوده، ونحن عموما لا نلوم كثيرا بنعمر على سلوكه كمعتمد دولي في اليمن الا بخلفية أخلاقية، أما على المستوى الإنساني فنحن نتفهمه جيدا لكل "الصدف" السعيدة التي نقلته من بيروقراطي ذي قدرات عادية وامكانات متواضعة الى حاكم بأمر الخارج على شعب ودولة ومجتمع، اللوم الحقيقي يقع على سياسيي المشترك، المحقرين لذواتهم ولما يمثلونه، لمجتمعهم وتاريخه وأحلام الناس وتضحياتهم من اجل دولة مواطنين ديمقراطية.
لم يكن انتقال السلطة في اليمن معجزة كما يحلو لبنعمر الترديد، ولكن المعجزة فعلا هي الفرصة التي اهديت له ليتحول الى "اللورد كرومر" بنسخة عربية رديئة "بفضل" اللقاء المشترك الذي يعاني من مركبات مازوخية لا تخفى على عين البصير -ولهذا مركب من الاسباب التاريخية/الثقافية المتجاوزة حتى للسياق التاريخي اليمني الى السياق العربي- ولهذا فلا وجاهة في رأينا للمناداة برحيل "بنعمر"، فهذا طرح غير مفيد، فلو أتت اية شخصية أخرى لسلكت ذات السلوك، الإشكال هناك، عند "التلاميذ" المازوخيين في اللقاء المشترك.

ليست هناك تعليقات: