يدخل إضراب القضاة وأعضاء النيابات
شهره الثاني دون أن تلوح في الأفق بوادر تحرُّك جاد لمعالجة جذور القضايا التي
دفعتهم إلى الإضراب، والحصيلة أن المواطن الذي يعاني عدم فعالية المنظومة القضائية
وبطء مسيرتها في الظروف الطبيعية، هو أكثر من يتحمّل تبعات ذلك التخاذل والمراوحة
في التعامل مع إشكاليات القضاء.
وحين يتصدر “صون الكرامات” مطالب
القضاة، كجزئية وركيزة محورية في صلب الاستحقاق المُلح والأعم المتمثّل في
استقلالية القضاء، يكون من الصعب لوم القضاة على استمرارهم في الإضراب وتفريطهم في
حق المواطن في العدالة طالما وهم لا يتمتعون بحقهم الأصيل في الحصانة كضمان أساس
لإقامتها.
الاعتداءات على القضاة وأعضاء
النيابات ليست مجرد حالة فردية نادرة، بل ترقى إلى مستوى «الظاهرة» إذ سجّل نادي
القضاة 48 حالة اعتداء عليهم منذ مطلع العام، وحتى في حال وقوعها لم تقم السلطات
بدورها في ضبط ومحاسبة مرتكبيها وإحالتهم إلى العدالة كإجراء طبيعي في حالة مواطن
عادي يعيش في ظل دولة، ناهيك عن قاضٍ يُفترض ألا يفكر أحد المتقاضين في المساس به
وانتهاك حصانته.
والأنكى أن يتخاذل الأمن في بعض
الحالات عن القيام بواجبه في حماية القضاة، رغم إدراكه خطورة القضايا التي ينظرون
فيها وحساسيتها، وتربص أحد طرفي التقاضي أو كلاهما بهم، كما حدث مع رئيس المحكمة
الجزائية الابتدائية في حجة القاضي محمد السروري الذي اختطف وروّع وهدّد بالقتل من
قبل أحد الخصوم بعد نطقه بالحكم في قضيتهم..!!.
أفرج عن القاضي السروري بوساطة، ولايزال
الخاطفون في مأمن من الحساب والعدالة على ما اجترحوه من جريمة بحق الدولة والمجتمع
ومعهم المتواطئون والمقصّرون في أداء واجبهم بحمايته وحماية المحكمة التي انتهكت
حُرمتها واختطف القاضي من أحد مكاتبها.
لا معنى للحديث عن استقلالية القضاء
بأي حال من الأحوال، إن لم يتمكّن من أداء وظيفته المقدّسة بعيداً عن الضغوط،
آمناً من نزعة الانتقام، و«نصف الناس خصوم القاضي، هذا إن عدل» ولا قيمة لحصانة
القاضي طالما أن بإمكان أحد المتخاصمين أذيّته وارتكاب صنوف الاعتداءات بحقه، قد
تصل حد الاختطاف والقتل وبعدها الإفلات من العقاب..!!.
وعوضاً عن التركيز على معالجة
القصور في أداء منظومة السلطة القضائية بكفاءة وفعالية، وتسهيل ضمان وصول العدالة
إلى الجميع، ووضع حلول ناجعة للإشكاليات المتعلّقة بتكدس القضايا في المحاكم وطول
أمدها، وعدم إنفاذ الأحكام، تحوّل القضاة إلى ضحايا لبعض المحتكمين إليهم من الذين
يتعاملون مع القضاء بعنجهية قبيحة، مع غياب أو ضعف سلطة الضبط المعنية، لكأن
المغزى أن تتراجع نضالات القُضاة من تحقيق الاستقلالية في عملهم إلى صون الكرامات.
لا مبرّر لتخاذل السلطات وتباطؤها
في التعامل مع مطالب القضاة الحقة، وهم يفتقدون العدالة التي يفترض أن توفّر لهم
كل الشروط اللازمة لتقديمها إلى الناس.
تظل بعض القضايا التي تتطلّب
معالجات ملحّة، محل مراوحة السلطات المعنية، وهي تؤمّل على عامل الوقت لفرملتها
وتمييعها، لكنها وإن أفلحت لبعض الوقت، تزيد جذورها تعقيداً، وتضاعف آثارها، ومعها
كلفة الحل بعد أن تتسرّب من بين أيديها فرصة تقديم الحلول الملائمة بكلفة منخفضة
حال قدّمت في الوقت المناسب.
هناك آلاف القضايا معطّلة في
المحاكم والنيابات، ومعها آلاف المتضرّرين من تأخير البت فيها، خصوصاً أن هناك
قضايا مستعجلة تخص سجناء ينتظرون قرار الإفراج مثلاً، وأخرى يكون فيها لعامل الوقت
حساسيته المؤثّرة ويخشى عليها من فوات الأوان، بالتأكيد لا أحد سينصف هؤلاء الناس
تبعاً لإهدار حقوقهم ومصالحهم.
كان الأجدر بنادي القضاة؛ إذ قرّر
الأسبوع الماضي استمرار الإضراب، مراعاة تلك القضايا، وانتداب قضاة للنظر فيها وحسمها،
تجسيداً للعدالة ونبل وإنسانية مهمة القضاة، وحتى لا ينكّل الإضراب بمواطن مظلوم،
ينتظر حكماً ينصفه، يطلق حريته، أو يعيد إليه حقاً دون أن يساوره أدنى تفكير
بالاعتراض سوى عبر مستويات التقاضي.
استقلالية القضاء لم تعد مجرّد مطلب
يناضل من أجله القضاة؛ بل أصبحت حقاً ثابتاً بحكم دستوري صدر العام الماضي أبطل
مواد في قانون السلطة القضائية تتعارض مع الدستور؛ إذ تخل بمبدأ الاستقلالية
مالياً وإدارياً، وهو المبدأ الذي ينبغي أن يؤكّده الدستور الجديد ويضمن إنفاذه.
هي كذلك ليست قضية ومطالب أعضاء
سلطته وحدهم، بل قضية دولة لا تكتمل وظيفتها مطلقاً دونه، وقضية مجتمع لا تستقيم
العلاقة بين أبنائه في ظل مؤثّرات تخل بميزان العدالة وتفقدها فعاليتها وقدرتها
على إعمال القانون، وإنفاذ الأحكام، وحفظ حقوق المواطنين وضمان المساواة بينهم.
نشر المقال في صحيفة الجمهورية السبت
26 إبريل-نيسان 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق